Min Shuquq Zalam

Nahid Hindi d. 1450 AH
33

Min Shuquq Zalam

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

Genres

أنا ميت - لا محال - في كلا الحالتين، في هذا اليوم أو بعد صدور الحكم بالإعدام شنقا، وهو ليس ببعيد. لم يخطر على بالي بالمطلق أنه قد يكون زجاجا مدرعا، ولا أنه من الممكن أن يكون سميكا جدا؛ إذ لم يكن في وقتها هذا النوع من الزجاج شائعا ولا أنا أعرف بوجوده ؛ لذا لم أفكر بهذا الاحتمال. بدأت أستعد لتنفيذ الفكرة التي وصلت عندي لمرحلة القرار النهائي، وتجاوزت كل المراجعات النفسية الداخلية، كنت أنتظر فقط لحظة لا ينتبه فيها الشرطي لحركتي، لمباغتته وتحقيق نجاح مثالي كامل للخطة. إلا أنه في هذه اللحظة بالذات اقترب الرجل كثيرا من الحائط الزجاجي، وكنت قد سمرت نظري عليه استعدادا للوثبة الأخيرة نحو الخاتمة التاريخية، وإذا به وهو يزيح الستارة بتأن لينظر من خلال الشباك إلى أمر ما في الخارج، أرى أن هذا الشباك الزجاجي الكبير محمي بشبكة حديدية ق«ية نطلق عليها في العراق تسمية «الكتيبة». صعقت وتخيلت كم كان للمشهد أن يكون داميا لكن من جانبي فقط. إذ لو نفذت خاطرتي لكنت أوقعته أرضا وربما تكسر الزجاج ليس غير، أما أنا فسوف تكسر عظامي بعدها تحت هراوات رجال الأمن، ومن الممكن أن أموت تحتها حتى قبل صدور حكم الإعدام. وئدت الخطة قبل تنفيذها، لكن قرارا كهذا مني - وإن لم ينفذ - يشي بأي درجة يأس كنت أحمله من تلك الحياة التي أعيش فيها حينئذ، وإلى أي حد كنت أخاطر بمواجهة هذا اليأس.

اليائسون حينما يرتكبون أفعالا انتحارية إنما يفعلون ذلك لأن كل سبل النجاة أوصدت أمامهم، وحينها يرون أن لا قيمة لاستمرارهم في مواصلة كفاح محتوم الخسارة، والخطورة الأشد والأعظم أنهم لن يجدوا من ثمن مهم أو قيمة ذي بال لحياة أي من خصومهم. المنتحرون لا يفعلون شيئا سوى أنهم ينتقلون من موت إلى موت آخر.

بعد أن انتهى التحقيق تماما وتمت كل الإجراءات الشكلية، توجهت قضيتنا إلى صالة الانتظار الأخير تمهيدا ليوم المرافعة النهائية في محكمة الثورة. إنما فوجئنا بحدث غريب جدا لم نك نتخيل وقوعه أبدا نظرا لتلك الظروف المريعة التي مررنا بها وكنا لم نزل نعيشها. وقع حادث خارج سياق الأحداث وعكس منطقها بالكامل، فلم يكن بحساب أي منا أنه سوف يظفر بفرصة للقاء أسرته بينما هو ما يزال معتقلا في هذا المحبس، لكن بلا أي سبب منطقي أو مقدمات ممهدة فوجئنا يوما بخبر غريب من ضباط التحقيق بأننا سوف نحظى بفرصة للقاء عوائلنا في القريب العاجل.

وجاء دوري في مواجهة أهلي لأول مرة منذ اعتقالي، وصعدت إلى غرفة ضابط التحقيق طليق اليدين مفتوح العينين، يرافقني في صعود السلالم رجل أمن واحد أعرفه بالاسم، وكان الرجل متساهلا جدا معي ليس الآن فقط، بل في كل الأحوال التي أكون فيها معه على انفراد. وللإنصاف إنه كان من العناصر التي تبدي تعاطفا مع المعتقلين، ويبدو من تصرفاته أنه كان يشعر في قرارة نفسه بظلامتنا، لكن طبيعة عمله تجعله حذرا للغاية، لم يكن هذا رأيا شخصيا مني فيه، بل سمعته من أكثر من واحد من المعتقلين الذين كانوا يكنون له محبة واحتراما. وهذه المشاعر الصادقة الودية تجاه عنصر أمني يظهر معدن المعارضين السياسيين آنذاك، فإنهم كانوا يتخذون مواقفهم ليس ضد أحد لشخصه وعنصره وفكره، بل بناء على سلوكه ومواقفه؛ لذا وعلى الرغم من أن الرجل يعمل في أحقر جهاز أمني إلا أنه كان موضع ترحيب ومحبة من المعتقلين لمواقفه وأفعاله مع أنها لم تغير من نتيجة المعادلة بشيء.

المعارضة السياسية تكون ضد المواقف المناهضة للإنسانية والحرية، وليست ضد الأفكار والانحدارات العرقية كما رأينا فيما بعد من جهات تفعل ذلك، وبأفعالها شوهت معنى المعارضة وأصبحت في نزاعاتها ليست سوى جزء من قطيع ذئاب يتقاتل على فريسة.

في الحقيقة هناك أشخاص كنا نراهم في ورطة حقيقية في هذا العمل التافه، لم يكونوا من قساة القلوب أو خبثاء السريرة ولا هم بمندفعين لإيقاع الأذى بالمعتقلين حتى وإن فعلوا ذلك، ويبدو أن اختيارهم لهذه المهنة الحقيرة كان سببه الحقيقي هو التهرب من الخدمة العسكرية الإلزامية والفرار من الذهاب إلى جبهات الحرب التي اشتعل أوارها حينئذ، وبدأت بحصاد أرواح الشباب بشكل جماعي لافت مع وقوع عشرات الآلاف منهم أسرى في أيدي القوات الإيرانية. الخوف من هذين الاحتمالين السيئين كان أمرا شائعا جدا بعد موجة معارك خاسرة ابتدأ تواليها سريعا ربيع ذاك العام. لكن على كل حال، هذا النوع من رجال الأمن لم يكن كثيرا للأسف الشديد، بل كان نادرا جدا، والغلبة بشكل ساحق كانت للعناصر السيئة التي تحمل خصائص أقرب للبهيمية المتوحشة من أي شيء آخر.

لأول مرة كنت أرى المكان بتفاصيله الدقيقة، تطلعت إلى جدران المبنى بنظرات فاحصة، حتى إنه وأنا أرتقي درجات السلالم مسرعا محاولا اللحاق بمرافقي منتشيا باللقاء المرتقب، لمحت على حائط لوحة معلقة فيها توقيع لصديق لي كان رساما بارعا. تملكني شعور بمقت شديد له، وغضب عارم انفجر في حشاشتي، حين رأيت توقيعه على لوحته.

بدأت أصرخ بغضب في داخلي: كيف يسمح هذا المعتوه أن تعلق لوحته في هذا المبنى القذر وهو الذي كنا نعتبره من طليعة الثوريين ومن المثقفين الداعين إلى النزعة الإنسانية في الفكر والتعامل مع الآخر؟! إلا أني سرعان ما استرجعت وعيي موبخا نفسي: ما الذي دهاك؟ هل جننت؟ وما يدري الرجل بما يفعل برسومه حين تباع؟ هل عليه أن يتابعها واحدة تلو الأخرى؟ ثم كيف له أن يعرف أنها أخذت إلى مديرية أمن؟ إذا كانت الناس عندما تدخل إليها تختفي آثارها مثل ملح يذوب في ماء، فهل تبقى من آثار للوحة فنية حتى يمكن له أن يقتفيها؟

وأنا أصعد تكاثرت أمام ناظري صور صعودي الوئيد حين كانوا يقتادونني على هذه السلالم نفسها، وكيف كنت أحصي ثلاث عشرة درجة، وإن أخطأت في حسابها تثور حفيظتهم علي لينزلوا بي قصاصا عاجلا من صفع أو شتم. لا أذكر كم من خاطرة مرت علي حينها، إنما بكل يقين لو حاولت عدها لعجزت عن إحصائها، لا حين مرقت بسرعة البرق وقتئذ ولا الآن عندما أحاول استرجاع شريطها.

كانت أوصالي ساكنة ورأسي ترتعد فرائصه خشية اللحظة المرتقبة؛ أمواج هائجة من خواطر متضاربة وأفكار متناقضة وأسئلة حائرة وردود عليها كانت تنهمر، فتصيب لبها وتطفئ ظمأها بشكل عجيب. كل هذا كان يحصل في تلك الدقيقتين أو حتى الثلاث دقائق؛ المدة الكافية لاستغراق طي كل السلالم وصولا إلى غرفة اللقاء المنتظر. انبثقت وسط هذه الثورة العارمة خاطرة غريبة مرقت بسرعة البرق، كأنها صاعقة نزلت لتميت كل شيء وأذهبت كل فورة خواطري في سكون عميق. خاطرة كانت خارج نسق الأفكار وأثارت ذهولي وقتها، ولا أصدق حتى وأنا أكتبها الآن كيف أخرجت عنقها من بين هذا الركام الهائل من تلاطم بحر المشاعر واضطرابها؟ ومضة كانت مثل سنا البرق قالت لي: كيف يمكن لعقل الإنسان أن يحتوي كل هذه الأفكار ويجري هذا الكم العجيب من الحوارات الداخلية في لحظات معدودة؟ تملكني انبهار غريب بقدرة العقل وصرت أتأمل المسألة بروية وهدوء مثلما يفعل أي فيلسوف يفكر سارحا متأملا فيها، وهو يمشي على ساحل بحر هادئ، وتطير من فوقه نوارس بيضاء في نهار تظلل فيه الأرصفة سحب بيضاء تحجب عنه حرقة الشمس لا نورها، سرحت بعيدا في عالم آخر بعيد يقع في الصفحة الثانية من الكون. ومثل وحي الشعراء اندلق علي فجأة فيض من ثقة بما حبوت به كإنسان من قدرات عجيبة تدعو للفخر والإعجاب كما تستدعي التقدير والتأمل، أصابتني حينها رعدة من فخر وتواضع في آن واحد.

Unknown page