Min Naql Ila Ibdac Tanzir
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٣) التراكم: تنظير الموروث قبل تمثل الوافد - تنظير الموروث - الإبداع الخالص
Genres
ويذكر ابن رشد الأنبياء ويأخذ معجزة إبراهيم نموذجا للسببية والعلية. ويخص بالذكر النصارى في جعلهم الصفات ذاتية وليست زائدة على الذات كما تفعل الأشاعرة لتبرير الأقانيم المتكثرة بالقوة وإن كانت واحدة بالفعل. ولا ينسى باقي الشعوب الشرقية مثل الكلدانيين الذين برعوا في علوم التنجيم نموذجا للأمور الكلية. فكل ما ظهر في السماء موضوع حكمة غائية. وإذا كانت الغائية في الحيوان فالأولى أن تكون في الأجرام السماوية. وإذا كان قد ظهر في الإنسان والحيوان نحو عشرة آلاف حكمة في ألف عام فلا يستبعد أن تظهر آلاف الحكم الأخرى في الأجرام السماوية في آلاف السنين القادمة، غائية في الماضي وغائية في المستقبل. وقد تكون العلة الغائية هي العلة الفاعلة الحقة.
76
ويضع ابن رشد الشريعة الإسلامية في إطار الشرائع المقارنة اليهودية والمسيحية وشرائع الصابئة والكلدانيين. فموقف الشريعة الإسلامية السكوت عن المسائل النظرية الخالصة، والتنبيه على ضرورة اتباع الجمهور ظاهر الشرع. في حين أن الحكماء لهم حق المعرفة، والتأويل ليس فقط في الشريعة الإسلامية بل في كل شريعة. وهناك جوامع بين الشرائع كلها مثل القول بحشر الأجساد منذ آلاف الأعوام وكما أقر بذلك ابن حزم عالم الأمة بتاريخ الأديان. وهناك أيضا خصوصيات لكل شريعة عبر عنها أبناء بني إسرائيل بعد موسى كما هو واضح في الزبور وبعض الكتب المنسوبة إليهم. وقد كان في بني إسرائيل حكماء كثيرون كما تشهد بذلك كتبهم المنسوبة إلى سليمان، وكما ورد في الإنجيل، وتواتر عن عيسى، وهو أيضا قول الصابئة أقدم الشرائع. وهم أكثر الناس تعظيما وإيمانا بها. وهو الدين الطبيعي الذي يقوم على التوحيد الطبيعي. وواضح ظهور الوعي التاريخي في نهاية «تهافت التهافت»، وكما هو الحال في الأعمال الفنية من خلال ابن حزم مؤرخ الأديان، واستعمال الإجماع التاريخي لإظهار الحقائق التي تتفق على كل الشعوب دون استعمال الحجج الشرعية العقلية أو النقلية ودون الرد على حجج الخصوم كما يفعل المتكلمون، والإيمان لدرجة القطع، ونفي أي احتمال للرأي المعارض.
77
ومع ذلك يوجد عند ابن رشد إحساس قوي بالتمايز بين الأنا والآخر، بين ملة الإسلام وعلماء الإسلام وفلاسفة الإسلام والمسلمين والإسلام من ناحية وبين باقي الملل الأخرى مثل اليهود والنصارى والصابئة والكلدانيين أو الشعوب مثل اليونانيين من ناحية أخرى. وأهل الإسلام منهم المتقدمون ومنهم المتأخرون. والمتأخرون هم الفلاسفة الذين هم أقل تحصيلا لمذاهب القدماء من المتقدمين. فقد انفردوا ببعض الأقوال، وخرجوا على مذهب المتقدمين. أما الفلاسفة من أهل الإسلام فهم أبو نصر وابن سينا والذين سلموا لخصومهم بأن الفاعل في الغائب كالفاعل في الشاهد. ولما كان الفعل الواحد لا يكون منه إلا مفعول واحد اضطرهم الأمر ألا يجعلوا الأول هو محرك الحركة اليومية. وهذا من خطأ أصولهم. يسميهم من ينتسبون إلى الإسلام خاصة ابن سينا. وينزع عنهم صفة الفلاسفة ويخرجهم من الإسلام كدين وليس من ملة الإسلام أو أهل الإسلام كأمة لأنهم خرجوا على الأقاويل البرهانية لأرسطو. وقد استفاد الغزالي أيضا من كتب الفلاسفة حتى فاق أهل زمانه وعظم حديثه في ملة الإسلام. وفي نفس الوقت يذم الفلسفة وأهلها وكأنه شيخ قديم أو فقيه من فقهاء السلطان.
78
ويشير ابن رشد إلى دائرة أوسع هم المتكلمون في الإسلام أو بعض علماء الإسلام أو أهل الإسلام المشتغلون بالعلم. للمتكلمين طرقهم الخاصة غير طرق الحكماء، وهي الأقاويل الخطابية والجدلية في حين أن أقاويل الحكماء برهانية. أما بعض علماء الإسلام فإنهم أصحاب الآراء في الفروع. وأهل الإسلام هم علماء الأمة على العموم، الإجماع الشعبي العام الذي لا يسلم بقدم العالم وإن لم يكن ذلك رأي الخاصة. ويذكر لفظ الإسلام أو المسلمين على الإطلاق دون تحديد. ويعني العقائد الشائعة، والإجماع العام في مقابل الكفر والزندقة، وإنكار المعاد الروحاني والنبوات. والحقيقة أن كل رفض للفلاسفة باسم الدين إنما هي مزايدة عليهم في الدين وكأن كل زيادة في الإيمان هو نقص في العقل بالضرورة. وإن مدح السلطان وتأييد الفكر الذي يعتمد عليه هو عدم قدرة على معارضة السلطان. وإن كل مزايدة على الفلاسفة باسم العقل أقرب إلى البحث عن العقل الخالص؛ إذ إن كثيرا من أخطاء الفلاسفة ناشئة عن التسليم بمقدمات خصومهم المتكلمين.
79
ويشير ابن رشد إلى الصوفية أرباب التأويل العلم الراسخ. وهو ليس العلم الشرعي. إتيانه في غير موضعه ظلم، وكتمانه عن أهله ظلم. ويربط بين تراث الحكماء وتراث الصوفية في عنصر مشترك هو التأويل وعلوم الخاصة. لذلك قال الصوفية لا هو إلا هو. بل يمتاز الصوفية على الأشعرية بأن الله ماهية يدل عليها اسمه الأعظم في حين أن الله على مذهب الأشعرية لا ماهية له أصلا ولا ذات لأن وجود ذات لا ماهية لها لا يفهم، في حين ذهب البعض الآخر أن له ماهية خاصة تتميز الذات بها عن سائر الموجودات. كما أن الصوفية تشارك الفلاسفة في القول بالمعاد الروحاني لا المادي ولم يكفرهم أحد. لا يهاجم ابن رشد الصوفية بل يهاجم الأشاعرة. هل لوجوده في الأندلس أم أن الهجوم على الأشعرية هو نقد مبطن للصوفية، أم أن ذلك توزيع أدوار، فقد قام الفقهاء من قبل بنقدهم والهجوم عليهم، أم لعدم خطورتهم بالأندلس، وربما لصداقته لابن عربي فيلسوفا وليس درويشا طبقا للقاء الشهير بينهما واتفاق المنهجين، النظر والذوق «أني أعلم ما يشاهد» «هي نفسها» «إنه يشاهد ما أعلم»، وربما لأن ابن رشد صوفي باطني مؤول في قراءة له؟ والأقرب إلى الصواب أن نقد الأشعرية هو نقد الأساس النظري للتصوف كما وضح عند الغزالي، يغذي كل منهما الآخر. فنقد ابن رشد للأشعرية صراحة وللتصوف ضمنا هو القضاء على رأس الثعبان دون ذنبه. والعجيب أن الفقيه ابن رشد لا يشير إلى الفقهاء كثيرا إلا مرة واحدة عن اختلافاتهم، وابن رشد الأصولي يبحث عن الأصول التي تجمع وليس عن الفروع التي تفرق.
80
Unknown page