Min Naql Ila Ibdac Talif
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٢) التأليف: تمثل الوافد - تمثل الوافد قبل تنظير الموروث - تمثل الوافد بعد تنظير الموروث
Genres
42
وبالإضافة إلى الوافد والموروث يظهر عند مسكويه بدايات التنظير المباشر للواقع، والاعتماد على التجارب الذاتية، وتحليل العقل الخالص، تحولا من النقل إلى الإبداع؛ فقوى النفس الثلاث ليست من الوافد، أفلاطون فحسب، ولا من الموروث، النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة، والنفس المطمئنة فقط، بل هي تجربة شخصية عند مسكويه، وإبداع ذاتي من تحليله الخاص وتنظيره المباشر للواقع. يصف مسكويه تجاربه الخاصة وتجارب الآخرين. يلاحظ ذاته واكتساب العادات وجهادها، ويعبر عن خلاصة ما انتهى إليه للقراء لنصحهم؛ فليست الغاية المعرفة وحدها، بل التوجه العملي أيضا، وإسداء الرأي والنصح للناس في إطار تجربة حضارية مشتركة وهم مشترك وغاية واحدة. يبزغ الإبداع عند مسكويه من تجاربه ومشاهداته، ثم يصدق الوافد أو الموروث على ما عرفه بنفسه معرفة مباشرة خاصة، وأن الموضوعات إنسانية خالصة، مثل الحزن والخوف، وفي ذهنه أحداث العصر.
43
ويشرك مسكويه القارئ في التجربة والمشاهدة. لم يعد الأمر بين مسكويه وأرسطو، ولكن مع القارئ أيضا كطرف ثالث في تجربة مشتركة واحدة وموسعة؛ لذلك يتحدث مسكويه بضمير المتكلم المفرد والجمع تعبيرا عن التجربة الشخصية. الخطاب موجه إلى القارئ والمستمع، وليس حديثا مجهولا، معادلات رياضية بلا متكلم ولا مخاطب، فيقول: ذكرنا، وصفنا، وعدنا. الفلسفة مشروع حضاري جماعي يعبر عنه الفيلسوف، خطاب أمة.
44
يدل أسلوب مخاطبة القارئ على أن الفكر تجربة مشتركة بين الكاتب والقارئ، وأن القراءة جزء من الكتابة، وأن الكتابة تهدف إلى أن تتحول إلى واقع يتحرك، وتغير فعلي. الكتابة فعل. والانقياد إلى الشريعة شيء بديهي يمكن رؤيته في سلوك الآخرين، وكذلك استعداد الصبيان لقبول الأدب أو نفورهم منه، وما يظهر فيهم من الإباحية والحياء، والقسوة والرحمة، والجود والبخل؛ مما يساعد على معرفة مراتب الإنسان إلى الفضيلة، وأنهم ليسوا على رتبة واحدة؛ ففيهم السهل السلس والصعب الممتنع. يكفي الكاتب الكليات، ويترك الجزئيات للقارئ. العلم في النفس وليس في الخارج، والتعلم من النفس وليس من المعلم. ويتحقق بالفعل، فيصير الإنسان خليفة الله، الموجود التام والدائم والباقي، يقبل الفيض منه بحيث لم يعد بينه وبينه حجاب. والقارئ على نفس المستوى والأهلية لما يطلبه الكاتب، والذي سرعان ما ينضم إليه ويصبح جزءا من الدعوة، كما هو الحال في التشيع والتبليغ. القارئ على نفس مستوى الكاتب، وقادر على أن يحقق وصاياه، القيم الذاتية، وليست الأشياء الخارجية في موضوع العجب والافتخار. ويعرض المؤلف للقارئ الموقف بحيث لا يكون هناك مجال إلا لاختيار واحد، إن شاء القارئ أن يختار الفضيلة والسعادة، مثل تقسيم النفس إلى بهيمية وسبعية وناطقة، ومطالبة القارئ أيها يختار، وكأن الحلقة أو الطريقة قد تحولت إلى تدوين. لا يعلن المؤلف عن حقيقة، بل يولدها من باطن القارئ.
45
أمام الإنسان طريقان؛ طريق البهائم وطريق الملائكة وطريق السباع، فأيها يختار؟ على القارئ أن يقوم بقلب النظرة من الخارج إلى الداخل حتى يصبح الاختيار واضحا، وإذا تأمل القارئ هذا الجوهر الشريف فيه لعرف أنه باق غير فان. وفي النفس الناطقة يتم الاتصال بالله، وتتلقى منه العون، على أن تقوم كل قوة بالسيطرة على القوة التي تحتها؛ فتسيطر السبعية بما فيها من حمية وغضب، على البهيمية بما فيها من لذات وشهوات، ثم تسيطر الناطقة بما فيها من عقل ورجحان على السبعية.
46
ويتم التأليف المزدوج من الوافد والموروث وتجاوزهما إلى التجربة الشخصية أو التنظير المباشر للواقع عن طريق آليات التأليف. التأليف المزدوج ليس تجاورا للمصدرين، بل توظيف معنوي عضوي لهما في عمليات الإبداع. ويمكن وصفها عن طريق تحديد المسار الفكري للعمل، بداياته ونهاياته، مقدماته ونتائجه، خطواته واستدلالاته. ويمكن الكشف عنها عن طريق تحليل أفعال الفقرات وأزمنتها وصياغاتها وأسمائها وحروفها؛ فالأفعال المستعملة كلها قبل فعل القول أو معه، أفعال البيان والإيضاح، مثل: بان، وضح، علم، ظهر، حدد، عرض؛ أو أفعال التقديم، مثل: ذكر، قدم، رأى، رتب، سمى، وصف، فحص، وقف. وتدل كلها على أن الفكر موضوع يقدم بوضوح وتفصيل واستقصاء. كما تدل الأزمنة، الماضي والحاضر والمستقبل، على مسار الفكر، ما تم وما يتم وما سيتم في مراحل ثلاث. وأحيانا يتم الجمع بين فعلين، الماضي والمضارع، ما تم وما يتم ، ما بان وما يتبين، وأحيانا مع الماضي في المستقبل. والفعل المضارع مواجهة مباشرة مع القارئ، ووضع الاستنتاج أمامه، ومطالبته برؤيتها بعد الاستدلال السابق؛ فهي النتيجة بعد المقدمة. وكثيرا ما يرتبط المضارع بالماضي على التبادل، وهو مسار معياري للفكر يعبر عن نفسه بأفعال يجب وينبغي. ويأتي المستقبل بعد الإعلان عما تم في الماضي وما يتم في الحاضر انتظارا للنتيجة، وغالبا يأتي بمفرده ومرتبطا بالمشيئة الإلهية. الغالب على العبارات إذن أنواع الأزمنة الثلاثة التي تحدد مسار الفكر ومراحله، من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، من المقدمات إلى الاستدلال إلى النتائج. الزمان هنا زمان الاستدلال؛ أي لا زمان. وإذا كان هناك خطأ في المسار يتم تصحيحه عن طريق إعادة ترتيب المقدمات وتحديد الغاية والقصد وتحقيق اتساق الفكر.
Unknown page