Min Naql Ila Ibdac Talif
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٢) التأليف: تمثل الوافد - تمثل الوافد قبل تنظير الموروث - تمثل الوافد بعد تنظير الموروث
Genres
وأرسطو في الفلسفة اليونانية يدل أيضا على آخر ما وصلت إليه الفلسفة اليونانية؛ لذلك بدأ يؤرخ لها. والتاريخ رصد للبداية علامة على الاكتمال وبداية النهاية، كما أن الإسلام آخر مرحلة في النبوة اكتمالا لمراحل الوحي السابقة؛ فأرسطو آخر الحكماء كما أن محمدا آخر الأنبياء؛ لذلك يبدوان متفقين في الرؤية، لا فرق بين حكمة ونبوة.
والمسائل المذكور فيها أرسطو أربعة، الثانية والرابعة والخامسة والسادسة؛ فالسؤال الثاني عن اعتماد أرسطو على أقاويل القرون الماضية والأحقاب السالفة في الفلك، واعتبارها حجة قوية على ثبات الفلك ودوامه. ومن لم يتعصب لأرسطو يعلم أن ذلك غير صحيح، وهو ما يعرفه أهل الكتاب، وما يحكى عن الهند وأمثالهم من الأمم نظرا لتعاقب الحوادث على مكان المعمور من الأرض، إما جملة وإما على التناوب. اعتمدت شهادة القدماء على حال الجبال وشهادة المحدثين على وقوع الأحداث. وهو سؤال الثبات والتغير في العالم. ورد ابن سينا دفاعا عن أرسطو بأنه لم يورد ذلك على سبيل البرهان، بل على سبيل المقارنة بين السماء والأرض، وأن الجبال وإن بدت ثابتة في كلياتها إلا أنها متغيرة في جزئيتها، وهو ما لاحظه أيضا أفلاطون. وقد أثار هذا الاعتراض من قبل يحيى النحوي الذي موه على النصارى وزايد في الدين على حساب العلم والعقل إظهارا لمخالفته لأرسطو. لقد افتعل يحيى النحوي آخر كتاب «الكون والفساد» لأرسطو الخلاف معه في هذه المسألة. كذلك تجاوز الرازي المتكلف الفضولي قدره في شروحه في الإلهيات، وعرضه الخراج، ونظره في الأبوال والبرازات، وكشف عن جهله بنفسه. وواضح من السؤال والجواب نقد البيروني لأرسطو، وأنه لا أحد معصوم من الخطأ. وهو نقد علمي لرأي أرسطو في ثبات الفلك، بل وضد النظرة السكونية للعالم على الإطلاق.
63
ويقوم ابن سينا بدور القاضي الحصيف بين البيروني وأرسطو، وكما سيفعل ابن رشد فيما بعد بين الغزالي والفلاسفة، والمعتزلة والأشاعرة، والمذاهب الفقهية، مبينا نوع كلام أرسطو، وأنه ليس برهانيا بل خبري، وتأييد قول أرسطو استشهادا بأفلاطون؛ فلا إعجابا بأرسطو وحده، بل عرضا لتصور حضاري للعالم يشارك فيه اليونان مع الإحالة إلى المصادر، كتاب «السياسات» لأفلاطون، وأغلب الظن أنها محاورة «الجمهورية». مصدر الاعتراض سوء نية يحيى النحوي المنافق الذي يزايد في الدين، ويتملق النصرانية ضد أرسطو ليظهر التعارض بين الإيمان والكفر، مع أنه وافق أرسطو في تفسير آخر له لكتاب «الكون والفساد». رفض ابن سينا إذن التفسير النصراني لأرسطو باسم الإسلام دفاعا عن الحق وأكثر فهما للدين، وكذلك وافقه الرازي بالرغم من تجاوزه في البرازات، لا فرق بين الداخل والخارج؛ فالكل يصب في مخزون نفسي واحد. المعترض إذن جاهل، ويضمر سوء النية. وينهي ابن سينا جوابه دفاعا عن أرسطو في قوله إن العالم لا بدء له؛ بمعنى لا فاعل له. هناك فرق بين البداية والفعل درءا لتهمة قدم العالم أو التعطيل على ما يقول المتكلمون. لا يجوز إذن الاستخفاف بأرسطو أو ادعاء المدافعين عنه تعصبا والإصرار على الباطل لأنه قبيح.
64
والسؤال الرابع لماذا استشنع أرسطو القول بالجزء الذي لا يتجزأ بالرغم من عيوب هذا القول عند المهندسين، وموقف الرافضين له أشنع من موقف القائلين به؟ ويجيب ابن سينا على ذلك بتحديد موضع رفض أرسطو للجزء الذي لا يتجزأ، أو قيام هذا الرفض على براهين منطقية قوية. قد توحي المقالة الخامسة من «السماع الطبيعي» بالإثبات، ولكن المقالة السادسة واضحة في النفي. وقد اعترض أرسطو على نفسه هذا الاعتراض من قبل وأجاب عنه، ولا يعني باعتراضه أنه يقول إن الجسم يتجزأ إلى ما لا نهاية بالفعل، بل يعني أن كل جزء له وسط وطرفان؛ ومن ثم أمكنه التخلص من شناعة القائلين به وشناعة الرافضين له. والخطأ سوء فهم أرسطو من المفسرين والشراح، ووقوعهم في السفسطة والمغالطة. والحقيقة أن المسألة كلامية، ثم تعشيق نقد أرسطو لمذهب أصحاب الذرة عليها؛ فالفلسفة متأخرة في الظهور على الكلام، والكلام سابق عليها. ورفض أرسطو للجزء الذي لا يتجزأ مثل رفض الفلاسفة وبعض المتكلمين له اتفاقا بين الحضارتين، واعتراض أرسطو على نفسه مثل اعتراض الأصوليين على أنفسهم والرد عليه مسبقا. وينتهي ابن سينا بوضع اللوم على الشراح والمفسرين وضرورة العودة إلى الأصول.
65
والسؤال الخامس لما استشنع أرسطو أن يكون هناك عالم آخر خارج هذا العالم على طبيعة أخرى يجمعها برزخ؟ ويرد ابن سينا على ذلك محددا الموضع الذي قال فيه أرسطو ذلك منكرا أن يكون ذلك في «السماء والعالم»، ومحددا سياق قول أرسطو، وهو رده على من قال بوجود عوالم موافقة لهذا العالم بالنوع والطبع، مغايرة له في الشخصية. وقد نقل الفيلسوف حجج هذا القول في كتاب «السماء» مبينا تناقضاته؛ لأن العلل التي يسميها الفلاسفة الطبيعة والعقل والعلة الأولى لا تنقل النظام إلى لا نظام، بل اللانظام إلى النظام، وكما بين أرسطو ذلك «سمع الكيان»، وفي تفسير ابن سينا للمقالة الأولى من كتاب «ما بعد الطبيعة»، وفي المقالة الخامسة من «السماع الطبيعي» وتفاسيره؛ فالحركات الطبيعية متناهية، إما من المركز أو إلى المركز في جميع الأجسام بالدليل العقلي. أما الكيفيات المحسوسة فهي تسع عشرة كما بينها الفيلسوف في المقالة الثالثة من كتاب «النفس» وشروح ثامسطيوس والإسكندر وغيرهما. يبحث ابن سينا هنا عن دوافع أرسطو وليس مجرد تخطئته. والسؤال هو زيادة في الإيضاح لفهم أرسطو وليس نقضا له؛ لذلك اعتمد رد ابن سينا على الوضوح والاتساق العقلي، ودلل على صحة موقف أرسطو، وأنه ليس مجرد دعوى؛ فإن ما لا دليل عليه يجب نفيه في منطق الأصوليين، وبين أن موقف أرسطو أكثر علمية، ومتفق مع شهادة الحس، وأكثر واقعية عن الافتراض النظري الوهمي لوجود عوالم أخرى مفترضة خارج هذا العالم. كما يستوثق من الرواية عنه طبقا لمناهج النقل عند المسلمين. ويستعمل بعض المصطلحات القرآنية مثل برزخ. يربط بين العالم الواقعي والعالم الوهمي بالرغم من ظهور لفظ «أسطقسات» المعرب عدة مرات، وكذلك لفظ «ماطافوسيقا» قبل ما بعد الطبيعة جامعا بين التقريب والنقل.
66
ويشرح أرسطو بأرسطو كما يشرح المفسرون الكتاب بالكتاب.
Unknown page