Min Naql Ila Ibdac Tadwin
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (١) التدوين: التاريخ – القراءة – الانتحال
Genres
25
أما المؤلف الحقيقي يحيى بن البطريق فقد أرسله الخليفة المأمون في بعثة إلى السريان لتعلم السريانية كما فعل محمد علي في مصر في القرن الماضي، ويوصف البطريق بأنه المتطبب. وله كتب معتبرة في فن المفردات وعلم الطب وغيرها، وكان مسيحيا.
ولمزيد من التشويق والإخراج المسرحي تبين المقدمة كيف تم العثور على الكتاب بعد التنقيب وإعمال الحيلة في هيكل الشمس، وكيف تمت ترجمته من اليوناني إلى اللاتيني ثم إلى العربي لبيان مدى الجهد في الحصول عليه. لم يدع هيكلا من الهياكل التي أودع فيها الفلاسفة أسرارها إلا وذهب إليه، ولا عظيما من عظماء الرهبان الذين عرفوها وظن أن مطلبه عندهم إلا قصده، حتى وصل إلى هيكل أسقليبيوس الذي بناه لنفسه، فظفر به بناسك متعبد مترهب ذي علم بارع وفهم ثاقب. فتلطف معه وأعمل الحيلة حتى أباح له الاطلاع على مصاحف الهيكل المودعة فيه، فوجد المطلوب، وكأن الغاية تبرر الوسيلة. وهو السر الذي عرفه الحكماء الثمانية الذين عرفوا العلوم الخفية التي عرفها أخنوخ بالوحي، وهو هرمس الأكبر الذي يسميه الروح أبهجمير وهو إدريس عليه السلام. وإليه تنسب كل حكمة علوية. وهرمس المثلث العظمة وهو صاحب الحكمة اللدنية. ولمزيد من إضفاء الجو السحري توضع حروف أبجدية مرتبة ترتيبا عموديا توحي بسر الأسرار. وأحيانا تعطى بعض العبارات السحرية مثل ثمانية وتسعة، والتسعة تغلب الثمانية، الثمانية والثمانية، والمطلوب يغلب الطالب، باب تسعة، تسعة وتسعة الطالب يغلب المطلوب. وأحيانا تضاف حروف سريانية مسيحية لإضفاء جو مسيحي عام على المخطوط. وقد ترجمه من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي يحيى بن البطريق الترجمان رحمه الله تعالى. وأحيانا يذكر من اللسان اليوناني إلى اللسان الرومي ثم من اللسان الرومي إلى اللسان العربي، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ويبدأ الانتحال باليونان كتاريخ، والقصد الإسلام كحضارة. اليونان وسيلة والحضارة الإسلامية غاية.
26
وأحيانا يختصر الكتاب كمقدمة لإضافة كتب أخرى من نفس النوع. فالمهم تيار العجائب الذي تمثله النصوص وليس نصا بعينه، مثل إضافة عجائب المخلوقات للقزويني، ونصوص أخرى مشابهة من الطبيعيات والتصوف والأدب والفلك. وأحيانا يضاف الشعر في البداية وفي النهاية في حضارة ثقافتها الشعر قبل الوحي وبعده. ويضم مخطوط آخر رسائل لاهوتية ومسيحية. وليس الحذف والإضافة قاصرين على الترجمة العربية، بل في الترجمة اللاتينية أيضا.
وتظهر ثقافات الشعوب السياسية. فعند الروم، لا عيب على الملك إذا كان لئيما على نفسه سخيا على رعيته. وفي الهند، اللؤم على النفس وعلى الرعية صواب. وعند الفرس، الملك السخي على نفسه وعلى رعيته مصيب. ويجمع الكل على أن السخاء مع النفس مع اللؤم على الرعية فساد. وتظهر صلة الدين بالسياسة. فالملك الذي يجعل الدين خادما للملك فإنه لا يستحق الملك، والملك الذي يجعل الملك خادما للدين فهو يستحق الملك. «ومن استخف بالناموس قتله الناموس.» وأول واجب على الملك رعاية حدود الله، واتفاق قوله وعمله، والزهد في الدنيا. ومثله يكون القضاة والصالحون والعاملون والفقهاء والمتدينون والأئمة. ولا تكون طاعة السلطان إلا بأربعة: الديانة والمحبة والرغبة والرهبة. والسلطان مثل الغيث يسقي به الله الأرض، فيجب له الشكر على النبات وعلى الشتاء والصيف.
وتضاف الزيادات الدينية كلما استمر الانتحال وزاد مؤلف أو ناسخ أو قارئ أو مالك. فمن الذي لا يود أن يكون له شرف الزيادة في العمل الجماعي؟ ويساهم في ذلك الحكماء الصوفية والأولياء ما دام الكتاب يتعلق بسر من الأسرار. وتضاف الصلوات وأدعية الشفاء وعلاج الأمراض وأيام السعود والنحوس وأشعار ينسب بعضها إلى الشافعي وأسماء عقاقير وفائدة تحسين الصوت لقراءة القرآن علاجا للنفوس والأبدان. وأحيانا يسبق الكتاب فوائد طبية تنفع المكسح مما يدل على أنه تحول إلى بركة كالبخاري. وتضاف نقرات من كتاب «الإرشاد»، وفيه دواء نافع إن شاء الله تعالى لعلاج النسيان وقلة الحفظ ووكة الأشياء والحمق والرعونة ومداراة العشق. ويظهر القصاص منسوبا إلى هرمس. فإذا قتل المخلوق مخلوقا مثله بغير حق ضجت الملائكة إلى بارئها. فإذا قتل المظلوم لا تزال الملائكة تدعو على الظالم حتى يؤخذ بدمه إلا أن يتوب. يعتمد على ما يشبه قصص الأنبياء، ممالك أيناخ وسعور وهنانخ الذين هلكوا بنكثهم أيمانهم مثل عاد وثمود.
27
وتبين بداية المخطوطات ونهاياتها القصد من الانتحال وكيفية إخراجه وتكوينه. فالانتحال مستمر زيادة ونقصانا. وكلها تدل على أن الانتحال إبداع حضاري. فمن سبعة عشر مخطوطا يمكن تلمس العناصر الآتية ودون حاجة إلى عرض مخطوط مخطوط. اسم الكتاب «كتاب السياسة في تدبير الرياسة المعروف بسر الأسرار»، فله اسمان؛ اسم ظاهري واسم باطني. ومؤلفه أرسطاطاليس تلميذ الفاضل أفلاطون دون تفضيل لأحدهما على الآخر لتلميذه الملك المعظم الإسكندر بن فيلبس المعروف بذي القرنين. فأرسطو هو معلم الإسكندر؛ ومن ثم فالكتاب وصية من الشيخ إلى المريد. ويظهر التوجه الإسلامي في استعمال اللقب القرآني «ذي القرنين». وقد صنعه الأستاذ للتلميذ حين كبرت سنه وضعفت قوته عن الغزو معه والتصرف له. وكان الإسكندر قد استوزره وارتضاه واستخلصه واصطفاه. وتذكر عبارات مباشرة لأرسطو مثل: «يا إسكندر، كتابي هذا كاف فيما سألته، وهو يقوم لك مقامي إذا تصفحته وفهمته، فاجعله تجاه فكرك ... وتعلو على جميع ملوك الدنيا والله صنيعتي عليك وهو حسبنا ونعم الوكيل.» وفي آخره: «أكملت لك يا إسكندر ما رغبت حسبما شرحت ووفيت لك بكل ما حق لك الوفاء فكن به سعيدا، موفقا إن شاء الله تعالى.» وبلغ الإسكندر حسن رأيه واتباع أمره بعد أن ظهر على مدن الأرض حتى دانت له الأمم عربا وعجما وكتب له أرسطو عدة رسائل. هذا بالإضافة إلى بعض التطهر مثل: «يا إسكندر لا تمل إلى النكاح فإنه من خواص الخنازير!» يا إسكندر احفظ هذه النفس الشريفة العلوية. وينافس المسيحيون، وهم أهل السر ومبدعو الأسرار، المؤلف المزعوم ، ويجعلون مؤلف الكتاب الأب المعظم مار إيليا مطران نصيبين، نشره قسطنطين باشا في القاهرة!
وتجتمع العلوم كلها؛ الطب والجغرافيا والسياسة والأخلاق، في النفس في فلسفة إشراقية واحدة تظهر فيها قدرة الله على الشفاء من الأمراض عن طريق الأعشاب الطبيعية والفصد والحجامة. وهناك ارتباط بين الطب والفلك؛ بين الطب الجسمي والطب الروحاني، الدواء للبدن والموسيقى للنفس. ويتجلى ذلك في علم الفراسة، التقابل بين الصفات الجسمية والصفات النفسية. ويصب ذلك كله في علم الأخلاق والتربية والسياسة للملوك والعوام على التقشف وعدم الإفراط في الجماع أو نكاح المسنات، وأهمية العسل للشفاء. وهي نصائح أقرب إلى الملوك منها إلى العوام. الفلسفة هي ملك الشهوات والسيطرة عليها.
Unknown page