Min Naql Ila Ibdac Tadwin
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (١) التدوين: التاريخ – القراءة – الانتحال
Genres
وفي كتب التاريخ المتأخرة يكثر الاستشهاد بالمنتحلات مثل وصايا أرسطو الأستاذ للإسكندر التلميذ طبقا لعلاقة الشيخ بالمريد. وبطبيعة الحال أن يكون للانتحال سياقه النفسي والتاريخي. فلما اشتدت العلة على الملك فيليبوس وأوصى بالملك إلى الإسكندر، تدخل الأستاذ وكتب وصيته له تعينه على ملكه الجديد.
14
والوصية «وصية أرسطاطاليس إلى الإسكندر» أقرب إلى الانتحال اليوناني الأول منها إلى الانتحال الإسلامي الثاني، لأنها ما زالت تقوم على الأخلاق العقلية المثالية دون تدخل الدين المباشر إلا نادرا . وهي تقوم على النصح بالرغم من حدود النصائح. وتبدأ بنصيحة الملك قبل نصيحة الرعية، تغيير الحاكم قبل تغيير المحكومين. والأخلاق طريق السياسة وأسلوب الحكم مثل زهد الحاكم والسيطرة على انفعالاته مثل الغضب والغيظ والرغبة في الانتقام والشهوات. وتطالب بمجالسة الحاكم للعلماء واطلاعه على كتب الحكمة. وتحذره من الكذب، وتدعو إلى سرعة ائتلاف القلوب وإصلاح الوزراء والأعوان قبل إصلاح الأحوال. وتجنب العقوبات الرادعة حتى لا ينفر القلوب. فأهم صفة للحاكم هي الرحمة مع العدل، جمعا بين الأشاعرة والمعتزلة. وبالرغم من ذكر هوميروس في النص مما يدل على الجذر اليوناني في الانتحال، إلا أن الدين يظهر مشيرا إلى البيئة الثقافية الإسلامية للانتحال الثاني. فوصية أرسطو إلى الإسكندر مثل وصايا الله للبشر. فإن الله تعالى ذكره لم يرض لنفسه من الناس إلا بمثل ما رضي لهم به منه، مثل الترحم والتصدق والجود. فالأخلاق العقلية هي نفسها الأخلاق الدينية. وما يأمر به العقل يأمر به الوحي. وكلاهما الطريق لاحترام الذات ورضوان الخالق. تقوم الوصية على الجمع بين الدنيا والدين. فقد تأتي الدنيا بلا دين وهو الخسران المبين. تأتي ثم تدبر. ولا يقوم كلاهما إلا بالعمل الجاد والمثابرة وتأدية الأمانة. فالفعل الإنساني هو الذي يقيم الدنيا والدين، الكدح في الأرض والسعي فيها. لذلك وجب الاجتهاد ومشورة العلماء. والعدل ميزان الله عز وجل في أرضه. وبه يؤخذ حق الضعيف من القوي. فمن مال هذا الميزان في يده عم الجهل والظلم، واغتر بالله أشد الغرور. وتنتهي الوصية بسؤال الله عز وجل الذي اختار العدل لنفسه وأمر بالقيام عليه واستعماله في خلقه أن يهتم الإسكندر ويجعله من أهله والقوام به في عباده وبلاده. ومثال ذلك أيضا «رسالة أرسطاطاليس للإسكندر في السياسة» في الانتحال اليوناني الأول، المثالية العقلية الأخلاقية، وفي الانتحال الإسلامي الثاني ضمها إلى الدين فتتحد الحكمة بالشريعة. وهي رسالة في الأخلاق كأساس للسياسة. تحلل انفعالات النفس مثل التعجب والسرور كمدخل لتطبيق السنة أي القانون، صبا لمعاني الوافد في لغة الموروث. وتعتمد على أمثلة من فارس وملوكها مثل دارا. وتذكر بابل ويضرب المثل بلوفرغس وتطبيقه السنن في مملكته. فإقامة السنن صلاح للعالم. وهي أولى من استتباب الدول بالحروب. وتحتاج السنن إلى من يدبرها، إذ لا يكتفي الناس بتطبيقها طواعية، وتلك وظيفة الإمام بتعبير الفقهاء. وشرط الرئيس أن يكون باختيار الناس إجماعا وليس اغتصابا للملك. وإلا تنقلت الرياسات من ملك إلى ملك، ومن مدينة إلى مدينة ، كما هو الحال في بلاد آسيا وبلاد أور. فقد حكم ملك آشور حينا أهل الشام وسوريا، ثم خلفه حاكم من فارس. فالشرق موعظة للغرب، واليونان درس في الديمقراطية للفرس. ولا تصلح المدن إلا بصلاح الرؤساء، فالناس على دين ملوكهم. ومن سمات الملك الكمال، ليس في الشجاعة والعدل وأصناف الفضائل فحسب، بل في القوة والعدة أيضا، جمعا بين العدل والقوة كما هو الحال في شروط الإمام عند الفقهاء وإلا انهار الملك.
15
كما أنها في مدن لقذيمونة وأثيناس ببلاد اليونان. وللملك أعوان من أهل الصلاح، يملكهم بالعدل لا بالمال. يعمل لصالح الناس بالعدل وحسن السيرة. «إن العدول لا يخافون إلا الله.» وهنا يتم تعشيق الوافد في الموروث، وتبدأ آليات الإبداع في نقطة مشتركة هي العدل أساس الملك في الوافد، والعدل مخافة الله في الموروث. ويدعو أرسطو للإسكندر بأن يسعده الله ويمكن له في الأرض. والعدل محمود عند الحكماء والأنبياء. وينال الملك طيب الذكر بحسن السيرة والبلاء في الحروب وعمران المدائن، تلك فضائل اليونانيين. وأفضل ذكر حمية القلوب، وتلك فضيلة المسلمين. وينهي أرسطو الرسالة مودعا: «والسلام إليك وعليك.» ويستنكف الخوارزمي المتأخر أن يذكر اسم أرسطو ويسميه «أستاذ الإسكندر». ويذكر هذه النصائح السياسية في باب «في الأسباب المزيلات للدول في كتاب أسرار الوزارة». فالسلطان على أجساد الرعية وليس على قلوبها. وتطاول الملك على الرعية والجند يجعله معرضا للهلاك، ويذكره بالموت وأخلاق السباع، والفخر بما لا يزول، ويحذره من الإفراط في الشراب، فالسكر على الملك حرام. ويبين له أنه عند الغضب يعرف الرجال، وأن الشهوة في خدمة العقل في حالة إقبال الدولة، والعقل في خدمة الشهوة في حالة إدبارها، وكأن الأخلاق تتغير بتغير لحظات قيام الدول وسقوطها؛ أي في وقت ازدهار المجتمعات وانهيارها، الأحرار يخدمون الدولة في حالة نهضتها، والسفلة في حالة انهيارها، ويبقى الملك طالما حفظت العمارة أي العمران وقامت الشريعة أي النظام. ويتقرب الأخيار إلى الملك بالنصيحة. وكل مفاسد العمال والأمراء منسوب إلى الملك الذي يتحمل مسئولية كل شيء. تنتقل الوصايا من الأخلاق الاجتماعية إلى الأخلاق الفردية. فإصلاح النفس يأتي قبل إصلاح الغير. وتنتهي الوصايا بحكمة أن الأيام تهتك الأسرار.
16
إذا كانت كلها نصائح حسنة فلماذا تكفير الفلاسفة إذن؟ ولماذا يتم تكفير أفلاطون وهو أشد تدينا من أرسطو؟ يبدو أن روح العصر أحد عوامل الانتحال. فالعصر مهتم بالملك دون الفكر، وبالدولة دون الحكمة، وبالعمل دون النظر.
ومن الطبيعي أن يحاور الإسكندر قواده ويراسل أصدقاءه، فقد قال له قواده إن الله قد بسط ملكه وأظهر قدرته. فالإسكندر صورة في أذهان أصحابه، كما أن المسيح صورة في أذهان الحواريين.
17
ومن آداب الإسكندر قوله لأصحابه: «والله ما أعد هذا اليوم من أيام عمري في مملكتي.» وكأنه يعبر عن قسم إسلامي. ويكثر من استعمال اللهم، مثل: «اللهم إلا أن يكون العمل قد شمله.» ويدعو معهم إلى أن التمسك بطاعة الله أحسن من الوقوف على المعصية.
Unknown page