Min Naql Ila Ibdac Sharh
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (٣) الشرح: التفسير – التلخيص – الجوامع
Genres
47
وينقل الشرح مادة المنطق اللغوية من الوافد إلى الموروث فتصبح مادة كلامية تشمل موضوعي التوحيد والعدل بلغة الاعتزال أو الإلهيات والنبوات بلغة الأشاعرة. ويبدو ذلك في قسمة العلم وإدخال المنطق مع الطبيعيات والإلهيات والإنسانيات في علم واحد. فالمقولات متقدمة على كل كتب المنطق بل وعلى الطبيعيات والإلهيات والإنسانيات التي يسميها الفارابي العلم المدني لأن الإلهيات ليست إلا النظر في المعقولات. وهنا ينقل الفارابي الشرح من مستوى المنطق إلى مستوى الإلهيات والمنطق بؤرة الحضارة اليونانية والمادة الدينية بؤرة الحضارة الإسلامية. تم نقل البؤرة الأولى إلى الثانية. ودخلت قضايا إلهية كمادة محددة لقوانين المنطق، وكما فعل السهروردي في «حكمة الإشراق» بنقل المنطق الصوري إلى المنطق الإشراقي، وابن تيمية بنقل المنطق الصوري أيضا إلى المنطق الحسي.
48
والمشكلة التي تبدو في الإلهيات هي العلم الإلهي والله هو عز وجل، وجل ثناؤه، الله تعالى، وليس الإله اليوناني
Theos . فالعلم الإلهي ضروري لا تدخل فيه القضايا الممكنة لأنه علم محيط لا احتمال فيه. لا يصدق فيه المتقابلان أو يكذبان لأنه لا احتمالات فيه. يعلم الله الأمور المستقبلة؛ ومن ثم لا إمكان فيه يتحقق في المستقبل. كما أنه يخلو من الإيجاب والسلب، والمعلوم والمجهول. يعلم الله الأشياء قبل كونها في كل الملل. فإذا كان المنطق عند أرسطو يتناول المستقبلات والممكنات والمحتملات فإن العلم الإلهي لا يتناول إلا القضايا الضرورية.
49
ويظهر مقياس المنفعة والضرر في اعتقادات الناس، فلا تهتز عقائدهم بعلم الله المحيط بالمستقبل وبالممكنات فيه. والله يعلم بصدق إحدى القضيتين المتقابلتين بعلم مسبق وليس بعلم لاحق كعلمنا نظرا لنقص طبيعتنا. ويلاحظ أن نقد المنطق اليوناني قائم على الإلهيات الإسلامية، وأن حكم الفارابي على الفلسفة اليونانية حكم واضح وظاهر دون تعمق أو تسرع. ولا يخص ذلك الإسلام وحده بل سائر الملل، الدين العام الشامل. كما لا يخص المنطق اليوناني وحده بل المنطق الإنساني العام، أو اللغة العربية وحدها بل اللغات عند الأمم أو كما يقول ابن سينا فيما بعد، ليس علم الشعر الخاص بل علم الشعر المطلق. والاختلافات في المنطق قد يكون حلها في الإلهيات. فالإلهيات أوسع نطاقا من المنطق كما يبدو من تركيب الوافد المنطقي على الموروث الإلهي. بل إن المنطق الصوري ذاته ضد أخلاق أرسطو التي تقوم على الإرادة والروية. حل شكوك المنطق في يقين الإلهيات وكما فعل السهروردي في حكمة الإشراق بنقده القضايا الشرطية المنفصلة بالنسبة لليقين الأخروي.
50
فالإلهيات مادة لمنطق القضايا. وينقل الخارج على الداخل وإن كان لا يجوز نظرا للتمييز بين المنطق والإلهيات، العلم الصوري والعلم المادي إلا أنه مقنع.
ويرتبط التوحيد بالعدل عن طريق معرفة الله الضرورية بالمستقبليات بما في ذلك الأفعال الإنسانية؛ ومن ثم يكون السؤال: إلى أي حد يكون للإنسان اختيار وروية والله يعلم مسبقا اختياراته في المستقبل؟ وإذا نفى الاختيار لا يصبح الإنسان عرضة للثواب والعقاب في الدنيا والآخرة. وهو مستحيل ليس فقط في الإسلام بل أيضا في كل الملل. وهنا يبدو الحكماء أقرب إلى المعتزلة منهم إلى الأشاعرة. ويقدم الفارابي حلا غير معروف ولا شائع عند الملل وهو أن الله يعلم كل موجود بحسب وجوده الضروري ضروريا، والممكن ممكنا، وهو قول غير كاف لأنه لا يثبت أن الله يعلم أحد المتقابلين على التحصيل. واضطرار العلم الإلهي واضطرار الفعل الإنساني ليس بينا في نفسه، يوضحه الفارابي وكأنه عاد متكلما، ويجد الحل في الحسن والقبح العقليين عند المعتزلة. كل ذلك ليس من أرسطو بل تركيب أرسطو، وإعادة إنتاجه بناء على الداخل.
Unknown page