جلست ذات صباح في غرفة صغيرة ذات شباك عريض يطل على الطريق، وهي غرفة أوثرها في أول النهار قبل أن تعلو الشمس ويرفع النهار، صيفا وشتاء، وفي وسعي - وأنا قاعد على الطارقة (الكنبة) - أن أوارب الشباك فأرى ولا أرى. وأظل فيها حتى أدعى إلى الطعام أو يأني أن أنتقل إلى مكتبي أو أخرج إلى عملي. وأكثر ما يطيب لي فيها الجلوس في أيام الإجازات أو البطالة، أو ساعات الكسل والفتور، ومزيتها أنها في ركن قصي من البيت - أو الشقة على الأصح - وإن كانت على الطريق، وأني أكون فيها كالراهب المنقطع في صومعته، سوى أني لا أتعبد إلا بالنظر إلى خلق الله من الفرجة بين مصراعي الشباك الخشبي؛ وتتعدد المناظر تحت عيني، وتتنوع وتتوالى فتعجبني، فلا أشبع من النظر، فلو شئت - أو استطعت - لظللت هكذا جاثيا على ركبتي - فما أستطيع أن أتربع لهيض في إحدى الساقين - إلى آخر العمر، أو إلى أن يردني السغب كخادم ابن الرومي.
وقد أصبحت - لطول مقامي في هذا البيت - أعرف كل من يقف - أو تقف - على رصيف الترام انتظارا لقدومه؛ وبلغ من ذلك أن الأمر يختلط علي أحيانا حين ألقى بعضهم أو بعضهن في الطريق، فأهم بإلقاء التحية، وأرد نفسي بجهد إيثارا للحيطة؛ ولولا أناة اعتدتها، واحتشام رضت نفسي عليه، لما وسعني أن أكبح نفسي عن التطفل بالتحية على قوم يبدون لي من المعارف؛ ولا أبدو لهم إلا غريبا سمجا.
ولست أعرف من هؤلاء وأولئك الذين صاروا إخوانا لي وهم لا يدرون، إلا ما يفيده النظر، على أني وأنا أراعيهم، وأجعل بالي إلى ثيابهم ومبلغ عنايتهم بها، وما أراه عندهم من ضروبها، وإلى حركاتهم ومشياتهم وطريقتهم في الكلام، وشمائلهم وسكونهم أو ضجرهم إذا أبطأ عليهم الترام، أو حال الزحام بينهم وبين ركوبه، أقول: إني وأنا أراقبهم من حيث لا يشعرون، قد ألفت لكل واحد وواحدة منهم قصة، فلو سألتني من هذا أو هذه لما تلعثمت أو ترددت وأنا أذكر لك اسمه أو اسمها الذي اخترته، وأسرد عليك ما أعرفه - ظنا أو تخيلا - عن حياته أو حياتها. ولست أجد مشقة في تصوير حال كل من هؤلاء، ولكني أجد عسرا شديدا في اختيار الأسماء الموافقة لهم، أو التي توحي وجوههم بها وهيئاتهم، وما يتبدى لي من أحوالهم. وهذا أشق ما أتكلف. وأراني أحتاج أحيانا أن أكتب حروف الهجاء على ورقة، ثم أروح أؤلف منها الأسماء المطلوبة، وقلما أرضى عن اختياري في هذا الباب. وما أكثر ما أنسى ما سميت به هؤلاء، فأكد خاطري وأجهد ذاكرتي فتخونني ولا تسعفني. وأحس كأن هؤلاء ليسوا بأناس حقيقيين، وإنما هم من مخلوقات الخيال، لأنهم لا أسماء لهم أعرفهم بها، أو أطلقها عليهم، والمرء بغير اسم لا يكون في إحساس القلب ونظر العقل أكثر من فرد من جنس، لأنه لا يتميز باسم يستقل به وينفرد، بالغة ما بلغت شخصيته الخاصة من القوة. أفترى الأحرف مجتمعة في اسم لها ... ماذا؟! لا أدري، ولكني أذكر أبياتا للعقاد من قصيدته: «كأس على ذكرى» يقول فيها:
هاتها باسم حبيبي
قاتل الله عداتي
آه لو تعلم ماذا
في اسمه من عزمات
أترى الأحرف فيه
غيرها في الكلمات
تنكر السحر وهذا
Unknown page