أما كيف شق الأرض وطلع فتفسيره أن تأخرها عن مواعيدها أزعجه، وأطار الوصفة النافعة، فراح يتبعها في ذهابها وإيابها وهي لا تراه. ***
العصي، معروضة في دكان، أو على أيدي بائعيها الطوافين بها، أو تحت آباطهم، لا يبدو لي أكثر من أعواد من خشب منجور ومدهون مصقول. ولكنها في أيدي متخذيها أو حامليها، أو المتوكئين عليها تدب فيها الحياة، وتكتسب «شخصية» وتنقلب أشبه بالعنوان أو الشارة أو الراية.
وأنا أرى من نافذتي - التي أصبحت لي كالمرض - كثيرين يغدون ويروحون، ولكني لا أجعل بالي إلى هؤلاء السابلة؛ لأنهم يمرون خطفا ولا يثبتون على النظر، فلا يتسنى لي أن أتدبرهم، إذ كان الواحد منهم لا يكاد يبدو حتى يختفي، أو لا يسلم حتى يودع، ومن أجل هذا أوثر الواقفين على الرصيف ينتظرون الترام ويسألون الله في سرهم أن يكون فيه موضع قدم، وأن يعطف الله قلب سائقه عليهم فيقف ريثما يثبون متزاحمين متدافعين إلى سلمه، أو يتعلقون بشيء فيه تبلغه اليد وتتشبث به.
ويخلو الرصيف أحيانا، ويقبل الترام متريثا متمهلا، كأنه «جمل المحمل» ويقف في المحطة، دقيقة ودقيقتين، وليس به إلا سائقه وحاديه أو زامره، وكأنما يقول: ها أنا ذا قد وقفت، وما من راكب أو راغب في ركوب، فاللهم اشهد! حتى إذا مل الوقوف والتلكؤ، وانطلقت الزمارة تدعوه إلى استئناف السير، أقبل رجل يعدو ليدركه، ولكن السائق يكون قد أعطاه كل ما عنده من سرعة، فيقف المسكين وإحدى قدميه على الرصيف والأخرى على الأرض، ويمناه على العصا، ويسراه على قلبه، ورأسه مثني، وصدره كالخضم يعلو ويهبط، ولا قدرة له على التفكير في سوء حظه، من شدة الإعياء.
ويسعى المسكين إلى حيث يقوم مصباح الإضاءة الذي حجب ضوءه، ويسند ظهره إليه، ويتوكأ على العصا بكلتا يديه، وهو لا يزال ينهج، ويجيء ترام في إثر ترام، فلا يتوقف كأنه في سباق، ولو وقف لما كان فيه موضع ينحشر فيه حتى ولا طفل رضيع.
فأتعجب لهذا الحظ الذي يشبه «الرفيق المخالف».
يكون المرء مستعجلا فيعوقه كل شيء عما يطلب، ويكون في فسحة من أمره ووقته، فإذا كل شيء ميسر، وما يخطر له أو لا يخطر، مهيأ حاضر. خرجت مرة أتمشى - على غير هدى أو قصد - وليس لي مطلب سوى هذه الرياضة الهينة، فبلغت محطة ترام أمامها بائع سجاير، فملت إليه، وجاء الترام ووقف، فاشتريت ما أبغي من السجاير، وارتددت لأعبر الشارع إلى الرصيف الآخر فإذا الترام لا يزال واقفا وما فيه راكب واحد، حتى ولا ذبابة، فترددت: أأركب أم أتمشى! ولم يقطع ترددي إلا صوت يقول لي: «ما تركب وإلا تمشي!» فضحكت وركبت وأنا أقول لنفسي: «هذا ترام خاص يقلني، ولكن إلى حيث يشاء هو لا أنا» ولو كنت أبغي الركوب لكان الأرجح أن يكون غاصا، وأن لا يقف.
وأعود إلى ذلك الواقف معتمدا على عصاه، فأقول: إنه كهل، ولكن العصا رفعته إلى الشيخوخة المتهدمة، ولقد رأيته يعدو، فهو لا تزال له بقية من قوة، ولكن العصا أضافت إلى سنه وهو واقف عشرين عاما.
وأعرف شيخا يصبغ شعره صبغا متقنا، أراه أحيانا فارغ اليدين، فلا تخدعني الصبغة ولا تزور سنه، وأراه وفي يده عصا قصيرة كالتي نراها في أيدي طلبة مدرسة البوليس سوى أنها أغلظ، فإذا به قد ارتد شابا. فيما أرى، وفيما يحس هو أيضا؛ لأنه يكون وهي معه أنشط وأخف وأشد وطئا على الأرض فأتعجب.
وأرى شابا مبالغا في التأنق وفي يده عصا مفضضة المقبض، فأقول لنفسي: هذا فتى مدلل أو محدث نعمة، ولا اعتماد عليه ولا خير فيه، والأغلب أن يكون أميا أيضا، ولعله كان يلبس جلبابا ومعطفا، فاعتاض منهما ثياب الأفندية، وأساء اختيار الألوان، ولو ظل في جلبابه ومعطفه لكانت العصا أشبه به وأليق، ولما عدا حينئذ أن يكون من «أولاد البلد» الذين يخرجون في مثل هذه الملابس حين يريدون أن يحيوا الليل بالسهر ، وأن يبيتوا في «خمور وأمور» كما يقول ابن الرومي في صفة التجار.
Unknown page