سمعتها أمس في دار من دور الموسيقى، «في الأوبرا كوميك» تتغنى عشقها ولوعتها، وحزنها لبعد من أحبت، وجزعها لقرب من كرهت. ففتنت بها، ولم أفارق صوتها ولا عواطفها طول الليل، وجزءا غير قليل من النهار.
لست أدري أقرأت «الأودسا» أم لم تقرأ، وأنا أسمح لنفسي بهذا الشك؛ لأني أعلم علم اليقين وتجربة أن الأدب اليوناني سيئ الحظ في مصر، وأن سوء حظه قد بلغ من الشدة إلى حيث لا نستطيع تقديره، أو تقدير عواقبه السيئة، نجهل الأدب اليوناني، لا أقول جهلا تاما، بل أقول جهلا فاحشا مخزيا، لا يليق بقوم يحبون الحياة، ويطمعون فيها. نجهل هذا الأدب جهلا فاحشا بحيث نستطيع أن نحصي المصريين الذين يعلمون ما «الأودسا»، وما «الإلياذة»، ومن «أوليس»، ومن «بينيلوب»، ومع ذلك فقد كانت «الأودسا» و«الإلياذة»، وما زالتا وستظلان دائما ينبوع الحياة للأدب والفن: للشعر، والنثر، والنحت، والتصوير، والتمثيل، والموسيقى. بليت القرون ولم تبل «الإلياذة» و«الأودسا»، فنيت الأمة اليونانية، وفنيت الأمة الرومانية، واختلفت العصور والظروف على أوروبا في العصر المتوسط وفي العصر الحديث، وستفنى أمم وتختلف عصور وظروف، وتظل آيات «الإلياذة» و«الأودسا» جديدة خالدة، محتفظة بقوتها وبهائها، ورونقها على وجه الدهر وتعاقب الأحداث، ولا نكاد نحن نفترض وجود «الإلياذة» و«الأودسا»، فإذا افترضنا وجودهما فلا نكاد نعلم بشيء مما فيهما.
إلى هذا الحد وصلنا من الجهل بمصدر الحياة للأدب والفن، ويظهر أنا إذا لم نستطع أن نمعن النظر في هذا الجهل أكثر مما أمعنا، فليس وراء هذا الحد مطمع لمن يحب الجهل، ويرغب فيه، أقول إذا لم نستطع أن نمعن في هذا الجهل أكثر مما أمعنا فيظهر أنا لا نريد ولا نحاول أن نخلص منه قليلا أو كثيرا. يظهر أنا سنظل على ما نحن فيه من الأدب اليوناني والفن اليوناني؛ لأنا نرى كل شيء يتغير في مصر، ونرى الرقي يتناول كل شيء إلا التعليم، فهو بحمد الله باق حيث كان؛ لأن المشرفين عليه لا يفكرون في تغييره، ولعلهم غير قادرين على أن يفكروا في تغييره. سيظل تلاميذنا يخلطون بين أثينا وصقلية كما يخلطون بين الإسكندرية وهانيبال.
ولكني بعدت عن هذا الطيف الذي أرقت له آخر الليل بعد أن طربت له أول الليل، قلت: إن «الأودسا» و«الإلياذة» كانتا وستظلان ينبوعا للحياة الأدبية والفنية، فقد ألهمتا شعراء اليونان على اختلاف فنونهم وأساليبهم، وألهمتا الفنيين من اليونان، بل ألهمتنا فلاسفة اليونان، وكذلك صدر عنهما شعراء الرومان، وكذلك صدر عنهما، وما زال يصدر عنهما شعراء الإفرنج منذ القرن السابع عشر إلى ما شاء الله.
ولقد كانت القصة الموسيقية التي شهدتها أمس أثرا من آثار «الأودسا»، اجتمع فيه جمال الشعر، وجمال الموسيقى، وجمال الغناء، وجمال الفن الآلي في التمثيل. فكنت تجد لذة لا تعدلها لذة حين تسمع أصوات الآلات الموسيقية وألحانها واختلاف نغمها الذي كان يرق حتى لا يكاد يسمع، وكان يغلظ حتى يكاد يصم السامعين. وكنت تجد لذة لا تعدلها لذة حين تسمع هذه الأصوات الإنسانية العذبة الرخيمة تمازج نغم الموسيقى متغنية بهذا الشعر الجميل الرقيق الذي يمثل أرق العواطف الإنسانية وأصدقها، وأدناها من الوفاء والحب والإخلاص. وكنت تجد لذة لا تعدلها لذة حين تسمع هذا كله وتنظر إلى مسرح التمثيل فترى هذه الجزيرة اليونانية القديمة كما وصفتها «الأودسا» في جمالها القديم الرائع الذي يزيده بهجة وسحرا ما اتخذه الممثلون من أزياء، وما اصطنعوا من آنية ومتاع.
كنت تجد لذة حين كنت تسمع ما تسمع وترى ما ترى، ولم يكن ينقص عليك هذه اللذة إلا أنها كغيرها من جميع لذات الحياة قصيرة محدودة المدى لن تتجاوز ساعة أو ساعتين؛ ذلك - فيما أعتقد - أخص ما تمتاز به اللذة الحقيقية التي تملك عليك نفسك وعواطفك وتسحرك السحر كله. تمتاز هذه اللذة بأنك تشعر حين تشعر بها بشيء من الحزن يصاحبها؛ لأنها ستنقضي بعد حين طويل أو قصير، وأنت تحب ألا تنقضي، وأنت تود لو كانت خالدة، أو لو انقضت بانقضائها الحياة.
اشترك في هذه القصة الموسيقي الفرنسي «جبرئيل فوريه» والشاعر الفرنسي «رينيه فوشوا»، ومثلت منذ عشر سنين فأعجب بها الجمهور وابتهج لها الناقدون، ولكنهم لم يجرءوا على أن يحكموا لها أو عليها؛ ذلك لأن فيها شيئا من الغرابة كثيرا، فهي لا تمثل الحياة في عصر نفهمه فهما يسيرا سهلا، وإنما تمثل الحياة في عصر بعيد منا كل البعد، بل لعل هذا العصر لم يعرفه التاريخ، وإذن فليس من اليسير أن نحسها نحن كما نحس الحياة التي نحياها، بحيث تتأثر بها نفوسنا، وتهتاج لها عواطفنا، فتبعث فينا ضروب الإحساس والشعور التي تبعثها فينا الحياة الواقعة.
تردد الناس في الحكم لهذه القصة أو عليها، ولكن كانت الحرب العظمى، فهزت النفوس والعواطف، وسهلت على الناس فهم هذا الشعر القصصي القديم الذي مثل ما أصاب الإنسان من محن فأحسن تمثيله، وصور ما اختلف على حياة الأفراد والجماعات من أحداث فأجاد التصوير. فلما استؤنف تمثيل هذه القصة لم يتردد أحد، ولم يشك إنسان، وإنما ظهر الإعجاب صريحا قويا لا يعدله إعجاب، فأجمع الناقدون على أن هذه القصة آية من آيات الموسيقى الفرنسية، وكان يكفي أن ترى الجمهور أمس، لتعلم أن الناقدين لم يخطئوا ولم يسرفوا.
عزيز علي أن أجهل الموسيقى، وأن يضطرني هذا الجهل إلى ألا أتحدث إليك بجمال هذه القصة من الوجهة الموسيقية، ولكني إذا جهلت الموسيقى وعجزت عن الحديث فيها، فإني أحسها وأشعر بها، وأستطيع أن أعلم أني سمعت شيئا طربت له، أو سمعت شيئا نفرت منه، وأشهد أني لم أنفر أمس، بل إني لم أطرب أمس، وإنما سحرت سحرا ليس فوقه سحر.
أشهد أني لم أكن أشك حين كنت أسمع هذه الموسيقى أني في جزيرة «إيتاك» وأني بمحضر من أولئك الأبطال القدماء، بل أشهد أني حين كنت أسمع هذه الموسيقى لم أكن في حاجة شديدة إلى أن يصف لي واصف ما يمثله المنظر من هذه الجزيرة المشرفة على البحر التي يغمرها هواء رقيق ناعم شفاف، والتي تزدان بكثبانها، وتلالها الصغيرة تهبط إلى البحر متدرجة قليلا قليلا.
Unknown page