وأخفت زهيرة عن سيدها كل ما تحس به من الإذلال والمهانة في غيبته!
ثم كان صباح، ودخلت زهيرة مخدع سيدها توقظه وتقرب إليه فطوره، وأبطأت في غرفته قليلا ثم خرجت لشأن من شأن الخدم، واستقبلتها سيدتها بالباب مغيظة، ونشبت معركة، وانهالت على الخادم اللطمات والشتائم!
ووثب عابد عن فراشه وخرج إليهما يستنبئ النبأ، وصكت مسمعيه عبارة نابية، وسمع بأذنيه التهمة التي تناله وتنال الفتاة في وقت معا، وعرف أين تبلغ الغيرة من قلب المرأة التي لم ترزق نعمة الحب ... وثارت ثائرته!
ونظرت الفتاة إلى وراء فأبصرت سيدها، فانبجست من عينيها الدموع وعلا نحيبها وأوشكت أن تسقط، وتناولها عابد بين يديه فألقت رأسها على صدره وهي تنتفض ... وطار طائر الحلم عن رءوس ثلاثة ... ... أما الرجل فكان من ثورة الغضب بحيث يوشك أن يسفك دما ... لقد سمع بأذنيه التهمة التي تناله في عرضه وإنه ليعرف نفسه ... ... وأما المرأة فقد أصبح ظنها يقينا حين أبصرت فتاة بين ذراعي رجل قد احمرت عيناه واختلجت أصابعه ... ... وأما الفتاة فقد نسيت أين هي بين الرجل وزوجه، فتتابعت أنفاسها مبهورة تحاول أن تلقي في وجه المرأة التي تتهمها في عرضها بالكلمة التي لا يثبت لها جنان امرأة حين تسمعها ...!
ووقف الخدم ينظرن ويسمعن ويتوقعن أن يشهدن فضيحة!
وقالت المرأة إلى زوجها وقد اجتمع في صوتها قسوة البغض وعنف الغيرة إلى ضعف الأنوثة: «كذلك تفعل على أعيننا جميعا ولا تستحيي ...! هذه الفاجرة، لا تجمعني وإياها دار ...!»
وعلا نشيج الفتاة وهمت أن تتكلم، وزادت لصوقا بصدر الرجل ... ونظر إليها عابد نظرة جمعت له الزمان في لحظة فكر، وكأنما خيل إليه من ماضيه صورة، وتتابعت الذكريات على عينيه يمد بعضها بعضا، ورجع القهقرى إلى ماضيه؛ وتمثلت لعينيه فتاة كانت له يوما وكان لها ثم افترقا، ولم يكن لها ذنب إلا أنها من طبقة غير طبقة السادة، وكفرت راضية عن ذنبها وعن ذنبه ومضت من وجهه، لتدع له أن يستمتع بالحياة على ما يشاء ... ... وهذه فتاة أخرى، كل ذنبها أنها من طبقة غير طبقة السادة، وأنها استحقت عطفه؛ يراد أن يطردها لتمضي على وجهها وتدع لامرأة أخرى أن تستمتع بالحياة على ما تشاء ...
وأراح على كتف الفتاة يدا ترتجف وقال في هدوء: «لا تراعي يا فتاة ... إن كان لا بد أن تذهب واحدة فلتبقي أنت ...!»
وتخلصت الفتاة من بين يديه ورفعت إليه عينين ضارعتين يبرق فيهما الدمع، ثم أطرقت وأرسلت عينيها؛ واستدار الرجل يريد أن يأوي إلى غرفته، واستوقفته الفتاة: «سيدي ...!»
وعاد إليها، فأردفت: «إنني ذاهبة لأمي ...!» - «أمك ...؟» - «نعم ...!» - «لم أكن أعلم قبل اليوم أن لك أما ...!» - «ولا أبا ...!»
Unknown page