وكان بوابو البيوت الأربعة مجتمعين وراء أحد الأبواب، وبين أيديهم نار يصطلونها وهم يسمرون، وكان لكل أسرة من سكان البيوت الأربعة حظ من حديثهم وسمرهم، وهل يجتمع مثل هؤلاء إلا لمثل ذلك ... وكانوا في غفلة عن الفتى، والفتى عنهم في غفلة ...
وطال الانتظار بالفتى، ونال منه البرد القارس، ونفذ الماء من ثيابه إلى جسده، وكان شعره الأشعث يقطر ماء على جبينه، فلم ينتبه إلا من بعد إلى هذه الشرفة التي تلقي ظلالها على جانب من الطريق، فأوى إلى ظلها يحتمي من المطر والريح في هذه الليلة الباردة ... ... لولا ثيابه الحائلة، ونظراته الضارعة، وذلك الفتور في عينيه، وهذا الشحوب في وجنتيه، ولولا هذه اللحية التي لم يمسسها حد الموسى منذ أيام، لحسبه من يراه عاشقا قد أضله هواه فأخرجه في هذا الجو العاصف يرجو موعدا أو يتزود بنظرة ... ولكن على وجهه سمات لا يكون مثلها في وجوه العشاق ... فما هذه الورقة المطوية في يده ...؟ فلعله رسول ...!
وأخذته عيون البوابين وهم في حلقتهم يصطلون ويسمرون، فتهامسوا وضحكوا، وأحس الفتى وقع نظراتهم، فاستحيا، ثم تغافل ولوى عنقه ...
لم يكن ذلك موقفه الأول؛ فقد طالما وقف «عباس» هذا الموقف من قبل ... ولطالما امتد به الانتظار في هذا المنعطف ساعات، حتى إذا ما انفتحت النافذة المرموقة أسرع إلى الباب وصعد، أو كتب ورقة في حاجته فبعث بها مع البواب ...
من أجل ذلك كان مألوفا لسكان الحي أن يروه في موقفه ذلك، وأن يسكتوا، لا يحاول واحد منهم أن يعرف ما وراء هذا الموقف من سر، ولكن واحدا منهم كان يزعم أنه يعرف فأسر النبأ إلى البوابين الثلاثة ...
وكانت الهواجس تهجس في ضمائر سكان البيوت الأربعة، فلكل واحد منهم مع أهله حديث عن هذا الفتى الذي لا يزال يتردد على هذا المنعطف حينا بعد حين، لأمر يزعم كل واحد منهم لنفسه أنه يعرفه، وإن لم يتفق اثنان منهم عليه ماذا يكون ...
وتناثرت الإشاعات ثم اجتمعت، فإذا على ألسنة السكان جميعا خبر واحد، هو أن للسيدة فلانة سرا تحاول أن تخفيه إلا عن هذا الفتى وعن بواب دارها ... ... لو وقف عباس مثل هذا الموقف كل يوم مرات في غير هذا المنعطف ما أحس به أحد ولا سأل عن خبره سائل، كم فتى، وكم فتاة، وكم رجلا، وكم امرأة يمشون كل يوم، ويقفون، ويتواعدون، ويتلاقون على أعين الناس في الشوارع الحافلة، ثم يودع بعضهم بعضا ويمضي لوجهه، فلا يثير أحد منهم فضول عابر ولا يسأل عن خبره سائل، ولكن هنا، في هذا المنعطف الذي يغلق بابه على بيوت أربعة قد تعارف سكانها فردا فردا فلا يكاد يخفى على أحدهم خبر جاره؛ هنا في هذا المنعطف كان وقوف عباس مثار فضول ومبعث ريبة ...
ولم يكن عباس عاشقا، ولا رسولا، ولكنه أخو السيدة فلانة زوجة الطبيب فلان ... هل يصدق أحد ...؟ إنها الحقيقة!
هذه السيدة التي يراها من يراها في أبهتها كأنها أميرة، أخت هذا الفتى البائس الشريد الذي يقف كل يوم هذا الموقف ساعات، تحت المطر الهاطل، وفي مهب الريح السافية، وفي أتون الشمس المحرقة، يترقب اللحظة المناسبة ليكتب إليها فيعود له البواب فيضع في يده بضعة دراهم، ثم يمضي؛ ليعود بعد يوم، أو بعد ساعات، فيقف موقفه يترقب، وفي يده ورقة مطوية ...
ماذا كان عباس في أوليته؟ وماذا صار ...؟
Unknown page