قال زميله: «فإنني سعيد برؤيتك اليوم ... وستظل معي اليوم وغدا، أليس كذلك ...؟ إن موعد زواجي غدا ... كأنما كان حضورك لميعاد!»
وعبس الرجل وسكت، وعاد ماضيه يتراءى له، ماضيه يوم كان عروسا يتهيأ للزفاف ليس بينه وبين الموعد إلا ساعات، وخيل إليه أن صورة ذلك الماضي تتراءى له الساعة في عيني صديقه القديم. إن على شفتيه ابتسامة الأمل، أفليس يدري على أي هول يقبل ...؟ إنه سيتزوج، ستكون له امرأة، لعله يحبها، ولعلها هي أيضا ... ولكن ماذا وراء ذلك؟ أفيعرف زميله القديم ما وراء غده؟!
وطال صمته، ويد صديقه في يده، وفي يده الأخرى ولده؛ بقية ذلك الماضي. في إحدى يديه تاريخ يبدأ، وفي اليد الأخرى نهاية تاريخ. قصتان أولهما رجل وامرأة، وحب وأمل، وأماني وأوهام ... وخاتمة إحدى القصتين هذا الغلام الذي يقوده، لا يدري القائد ولا المقود أين يذهب به صاحبه، فماذا تكون خاتمة القصة الأخرى ...؟
وظل صامتا، وظلت يد صديقه في يده، واسترخت أجفانه فكأنما أخذته إغفاءة، وانحدرت على خده دمعة، واختلجت يداه في يدي رفيقيه ... وتلاشت الابتسامة على شفتي صاحبه، وانقضبت نفسه، وأحس يدا تختلج في يده فصاح في لهفة: «ماذا بك؟»
وصحا الحالم من غفوته ولم تزل في رأسه بقية من الحلم، وأجاب في غير وعي: «لا شيء ... كن رجلا ... لا تأس على ما يفوتك ... هذه هي الدنيا ...!»
وأفلتت يد من يد، ومضى على وجهه وخلف صاحبه حيث كان ولم يزل في يده غلامه ...
وهبت نسمة فاستيقظ، ومثل ماضيه لعينيه ثانية، وتراءت لها صورتها ... يا لله ...! إنه لم يزل يحبها ...!
وأحس كأنما تجاذبه الأرض إلى الوراء ... إلى حيث يراها ... أبعد كل هذا ...؟ وشعر أنه يمسك في يده شيئا، ونظر إلى جانبه فرأى ولده ... لقد كاد ينسى ... وعادت له من الماضي صورة أخرى، وعاد قلبه فامتلأ حقدا ومرارة ... وجد في السير، وغلامه في يده يتعثر في مشيته لا يكاد يلحقه ... ... وتغلب على نوازعه، وعرف كيف يكون رجلا، وكيف يقمع في صدره ذلك الحب الذليل الذي أفسد عليه حياته وأوشك أن يهوي به إلى الهوان والعار ... ومضى في طريقه إلى البلد النائي، وكأنما كان يدوس بقدميه قلبه الدامي فيحس وخزا أليما فوق ما تخزه الذكرى وتؤلمه ... •••
ومضت الأيام تسدل بينه وبين الماضي حجاب النسيان وهو يغالب هواه ويصارع نفسه، حتى برئ من دائه. وأخذت ذكريات الماضي تتضاءل في رأسه رويدا رويدا حتى أوشكت أن تتلاشى، وانقشعت عن عينيه غشاوة العاطفة التي كانت تغلبه على عقله، وتزين له أن يبيع بالحب كرامة الرجل.
وانقضت سنوات أخرى، وأصبح الرجل ذات يوم صحيحا معافى. ودق جرس الباب، وانبعث الماضي لعينيه ثانية حين رأى نفسه وجها لوجه أمام المرأة التي كان يحبها أعنف الحب، فعاد يبغضها أعمق البغض، ويبغض من أجلها النساء جميعا ... ها هي ذي تسعى إليه بعد سنين من القطيعة تصبحه مبكرة ... أمن أجله أم من أجل ولدها ...؟
Unknown page