كذلك سأل نفسه، ولم يسأل: «أين زوجه الآن؟» فلعل ذلك لم يكن يعنيه بقدر ما يعنيه أن يجد باب الدار مفتوحا! لقد تعودت زوجه ما تعودت، وتعود منها ما تعود حتى لا يكاد يكون لها شأن في الدار إلا أن تأكل وتنام. لقد اصطلحا على أن هذه الدار ليست لهما إلا «فندقا خاصا » يجدان فيه من الطعام وراحة الجسد ولذة الغزل ما لا يتهيأ لهما مثله في «فندق» آخر؛ ولكن فندقهما هذا ليس له اليوم خادم ولا بواب ...! أليس لهذا المسكين على امرأته مثل حق الأزواج على الزوجات، أو مثل حق النزلاء على مدير الفندق؟!
وأخذ الرجل يذرع الطريق غاديا رائحا، ويداه معقودتان خلف ظهره، ورأسه إلى الأرض لا يرفعه إلا لمحة بعد لمحة ليمد بصره إلى أول الطريق ...
ورآها مقبلة في سرب من رفيقاتها تهتز أعطافهن في فتنة وإغراء، ويتهانفن في الحديث عابثات، ورأته زوجه فأسرعت إليه قائلة: «أنت هنا؟» ولم تزد، وسبقته إلى الباب، وانصرف صواحبها. وقال لها وقد اطمأن بهما المكان: «لقد انتظرت طويلا ... أين الخادم؟»
قالت: «أوه! ألم أنبئك منذ أمس ...؟ لقد ذهبت إلى أهلها، ومن أجلك عدت مبكرة!»
قال منكرا وقد رسم الاستياء خطين على جبينه: «مبكرة؟!»
ومالت عليه فطوقته بذراعها، وراحت أصابعها تعبث في شعره، وانطبعت على شفتيها ابتسامة فاتنة. فانبسط الرجل من عبوس، وذاب غضبه في حرارة صدرها الدافئ ... ... وتتابعت أيامهما من بعد بين غضب ورضا، فقد بدأ الرجل يحس أن له على امرأته حقا ... وأدركت المرأة أن زوجها يحاول أن يعود رجلا وأن يبسط عليها سلطانه، ولكن بعد أن عرفت من أين تناله وكيف تغلبه على إرادته. ومضى عام، وزادت الأسرة ثالثا ... هذا الغلام يعبث بأزرار معطف أبيه ...! ••• ... ودق الجرس في فناء المدرسة، فأفلت الغلام من بين يدي أبيه إلى الصف سريعا، وخلف أباه وحده يسترجع ذكرياته ...
ترى أين هي الآن؟ إنه لم يزل يحبها، ولكنه قد فارقها، أو لعلها هي التي قد فارقته ...!
وآلمته الذكرى، ومد يده إلى جيبه فأخرج من علبته دخينة أشعلها واعتمد على حافة المقعد بذراع وأسند رأسه إلى راحته، وزفر زفرة، وتلوت ثعابين الدخان صاعدة أمام عينيه تخيل له ما تخيل، وراح يتابع الذكرى ...
لقد كافأته زوجه على الحب والطاعة عصيانا وسخرية ...! ليته استطاع أن يكون معها أصلب قناة وأغلب إرادة، فلعله كان أحب إليها صلبا غلابا صاحب إرادة وعنفوان !
إنه كان يحبها حبا بعيد الأمل، ليس له حدود تحصره في حدود الممكن أو تحبسه في دائرة الحقيقة؛ فلما ظفر بها ضل الطريق إلى السعادة التي كان يتمثلها على البعاد حلما في النوم وتخيلا في اليقظة، وبين الأحلام والأماني راح يلتمس قلبها فهوى على قدميها!
Unknown page