علّي أجد في ثيابه عبقًا من أزاهير الماضي الحلو الذي سَرَبْنا فيه جميعًا، يحملنا مرح الطفولة وعبثها اللذُّ، فجسنا خلال رياضِهِ وأوغلنا في دروبه المعشبة ومسالكه التي فتَّح على جانبيها الأقحوان وضحكت الشقائق، أحاول أن أستطلع من وراء هذا الشباب الذي نالت منه الليالي حتى أشرَفَ على الكهولة وهدّته مطالب العيش وأخذت منه رواءه وبهاءه، فبدا كالشجرة المنفردة القائمة على شفير الوادي عاجلها الخريف ببرده وعواصفه ... أحاول أن أرى من ورائه طلعة «ذلك» الصبيّ الفرح أبدًا، الضاحك اللاهي، الذي كان رفيقي يومًا والذي أحببته وقاسمته مرحه ولهوه ... فإذا لم أرها أُبْتُ أجُرُّ رجلَ خائبٍ فُجِعَ في أعزّ آماله وفقد أحب أمانيه إلى قلبه، وإن وقفت على معهد من معاهد الصغر أو ملعب من ملاعب الطفولة فتّشت في زواياه وأركانه، وتحسست الحجارة من جدرانه، علّي أجد بينها ذكرى حلوة قد خبأتها يومًا ونسيتها.
ولذلك وقفت اليوم على «الجقمقية»، ولكني لم أجد فيها ما أريد. لقد عدا سارقان على أحلى ذكرياتي فسرقاه في غلس الليل كما يسرق النبّاشون الذهب من قبور الفراعنة، ولم يدَعا لي إلاّ كل تافه حقير. فبماذا أتحف القراء بعد الذي صنعه معي هذان اللصان: الزمان والنسيان؟!
* * *
هذه هي المدرسة التي أودعتُها عهد الطفولة وذكرياته العذاب، لا تزال قائمة جدرانها ماثلًا بنيانها، وهذه هي الطرقات التي كنت أسلكها غاديًا إليها من داري ورائحًا منها إليها، وهذا هو «الأموي» العظيم الذي كنا نعرّج عليه كل يوم بكرة وظهرًا وعشيًا،