Min Caqida Ila Thawra Tawhid
من العقيدة إلى الثورة (٢): التوحيد
Genres
ليس الجوهر سابقا على الأعراض بالزمان، بل هو سبق بالرتبة والشرف. فالقدم بالوجود الذي هو موضوع الأدلة هل هو مخالف للتقدم بالزمان أو الشرف أو الرتبة أو الطبع أو العلية؟ هل هناك تقدم بالوجود الخالص أم أن الوجود تجربة شعورية لا تنفصل عن القيمة وبالتالي فهو أيضا بالرتبة والشرف؟ وكلها مقولات إنسانية خالصة من الزمان مثل القدم والحدوث أو عن الوجود مثل الجوهر والعرض أو عن الحرية مثل القدرة والاختيار والترجيح أو عن العواطف الإنسانية مثل الحاجة والافتقار. وإن كثرة استعمال ألفاظ تأثير واحتياج تدل على أن الاستدلال استدلال إنساني وجداني عاطفي وليس استدلالا عقليا أو واقعيا. فالإنسان هو الذي يحتاج وليست الأشياء، وأن يكون المحتاج إليه له سبق الفضل على المحتاج.
100
والافتقار مثل الاحتياج، الإنسان هو الفقير إلى «الله»، و«الله» هو الغني. ويمكن أن تثار كثير من المشاكل الوهمية يمكن حلها بطريقة تثبت وجود ما يراد إثباته، وبالتالي يكون الموضوع كله أقرب إلى التمرين العقلي لموقف وجداني، واتساق الوجدان مع العقل، واتساق الذات مع العالم. بل إن موضوع التقدم بالزمان نتيجة للوهم والخيال وليس بناء على شهادة الحس أو أوائل العقل، تكشف عن البعد الوجداني الإنساني في الاستدلال.
إن أهمية هذه الأدلة في حقيقة الأمر ليست في أنها تثبت شيئا، بل لأنها تكشف عن عمليات شعورية، كيف يحاول العقل التعبير عن عواطف الإيمان. فالبراهين على وجود «الله» هي محاولات الشعور للاستدلال عقلا على وجود الذات المشخصة، محاولات عقلية خالصة يقوم بها الذهن لتبرير الموقف الشعوري وإعطاء أساس عقلي لعواطف التأليه، فالبراهين على وجود «الله» لا تثبت شيئا في الخارج، بل تكيف الشعور مع ذاته، ومحاولة الذهن إعطاء أساس نظري لعواطف التأليه. والاتجاه العقلي الخالص الذي استطاع أن يمتص كل عواطف التأليه في الصياغات العقلية لا يحتاج إلى صياغة أدلة لإثبات ذات مشخصة تكون بؤرة لعواطف التأليه تتجمع حولها الصفات في حين أن الاتجاه العقلي النسبي الذي لا يكون معادلا لعواطف التأليه يحتاج إلى مثل هذه الصياغات العقلية لصب ما تبقى من عواطف التأليه دون تصريف فعلي. الأول يمثله المعتزلة، لذلك لم يحتاجوا إلى صياغة براهين على وجود «الله»، والثاني يمثله الأشاعرة الذين كانوا بحاجة إلى صياغة مثل هذه البراهين. وكلما زادت العقلانية قد لا يحتاج الشعور إلى مثل هذه النقطة الثابتة، سواء كانت ذاتا أم فردا أو غيرا كي تتوقف حركة الشعور لديها، فالشعور في عملية التنزيه لا يتوقف مطلقا. حركة الشعور ذاتها هي الموضوع دون أي تدخل من العقل أو من الإرادة لتثبيت نقطة فيه. وفي هذه الحالة يكون موضوع التنزيه ماهية خالصة بلا ذات. وإذا أعطيت للماهية معنى الذات فإن موضوع التنزيه يكون بلا ماهية ولا ذات. بل إن حركة الشعور ذاتها وعملية التنزيه التي لا تتوقف رد فعل على التجسيم والتثبيت بالذهاب إلى الاتجاه المضاد. لقد استطاع الذهن صياغة عدة أدلة تقوم في الحقيقة على أساس انفعالي واحد وهو الانتقال من هذا العالم إلى عالم آخر، من الحس إلى العقل، من المادة إلى الصورة، من الحادث إلى القديم، من الممكن إلى الواجب، من المركب إلى البسيط ... إلخ. بناء على عاطفة التطهر، وأن الحق المطلق ليس من هذا العالم بل يسود عليه من فوقه، وهي لغة الجماعة المنتصرة أو الحاكم المتعالي. والباعث على هذه القسمة العقلية في الحقيقة تطهر ديني وليس نظرة علمية لظاهرة موجودة، أي أنها نوع من التعبير الإنشائي وليست فكرا خبريا، مهمتها تبخير العواطف والانفعالات وليس التحليل العلمي للواقع. وفي أسوأ الحالات، يعيش العقل على ذاته، ويتحول إلى ذات وموضوع في آن واحد حتى ينعدم الموضوع كتجربة حية في الشعور، وكأن الإنسان مع منطق خالص وينتهي الإحساس بالشيء. إن الاعتماد على القسمة العقلية والمحاجة بالأدلة تفقر الوجود، فالوجود أغنى بكثير من القسمة العقلية، وبالتالي يتحول الموضوع كله إلى مجرد جدل صوري فارغ يتبخر الموضوع فيه، فلا يوجد حينئذ إلا العقل الصوري، وكأننا بصدد موضوعات رياضية خالصة.
101
ويعترف المتكلم صراحة بأنه يستخدم الطبيعة من أجل إثبات وجود «الله» وليس لدراستها وتحليلها وفهمها على ما هي عليه من أجل السيطرة عليها واستخدامها والانتفاع بها في حياته العملية. الطبيعية لديه مجرد حامل لأفعال إرادة خارجية مشخصة، وتتلخص دراسة الطبيعة في البحث عن هذه الأفعال والاستدلال بها على فاعلها الأوحد. فهو استخدام رأسي للطبيعة، يذهب بها إلى ما بعد الطبيعة، وليس استخداما أفقيا للطبيعة يجعلها تاريخا حيا وعالما للإنسان يسكن فيه ويتصل مع الآخرين، ويحقق فيه رسالته. الطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أعلى كما أن الإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أسفل، فكل ما يصف به المتكلمون من حدوث للطبيعة إنما هو مقدمة للإلهيات الشائعة، وجود «الله»، الخلق من عدم. العالم حادث لأن «الله» قديم، والعرض في محل والجوهر في حيز لأن «الله» ليس في محل وغير متحيز. العالم فان لأن «الله» باق. العالم له أول لأن «الله» لا أول له. فكل ما يقال في وصف العالم إنما هي إلهيات مسبقة أو إلهيات مقلوبة بالرغم مما يبدو عليها من رؤى حية تعتمد على الحس والمشاهدة وأوليات العقل وبديهياته.
فإذا كان العقل قد انتهى إلى فراغ، والطبيعة إلى أنها إلهيات مقلوبة، يكون السؤال: هل هناك براهين نظرية على إثبات الذات أم أن البراهين عملية خالصة؟ إن براهين إثبات الذات إذا كان المقصود منها الذات الفردية فإنها ليست براهين نظرية بل تجارب وجدانية بديهية. الذات موجودة ومرادفة للشعور، والشعور هو الوعي بالذات، والوعي بالعالم، والوعي بالآخرين. وهذا هو الوعي الطبيعي الشرعي. أما إذا كان المقصود بالذات الذات الكلية، الحقيقة المطلقة، الوعي الشامل، فإن البراهين أيضا ليست براهين نظرية لإثبات حقائق شيئية، بل براهين عملية لتحقيق هذا الوعي المطلق في التاريخ والذي تحول على أيدي المتكلمين إلى وعي مشخص نتيجة لفقدان الوعي بالذات والوعي بالعالم، وحتى أصبح وعيا مزيفا. وهذا هو المقصود من ارتباط التوحيد عند القدماء بالمسائل العملية كالسياسة؛ لأن التوحيد مرتبط أشد الارتباط بمسائل تحقيق العقيدة والرسالة في التاريخ وليس بالموضوعات النظرية.
102 (7) هل يمكن العلم بالذات؟
قد يتصدر موضوع إمكانية العلم «بالله» مبحث الذات قبل الأدلة على وجود الصانع، وقد ينهي مبحث الذات. يمكن أن يأتي في البداية كسؤال عن إمكانية وصف الذات في ذاتها أو بالنسبة إلى غيرها في مظاهرها، وقد يأتي في النهاية كاستدراك.
103
Unknown page