171

Min Caqida Ila Thawra Tawhid

من العقيدة إلى الثورة (٢): التوحيد

Genres

أما الأدلة العقلية فهي معتمدة أيضا على الأدلة النقلية تفسيرا وتأويلا واستنباطا. فسؤال موسى لا يعني فقط إمكانية الرؤية، ولكنه أيضا يفيد الاستحالة بدليل الرد الحاسم بالنفي. والسؤال وإن بدا في ظاهره شرعيا إلا أنه في الحقيقة لا شرعي يدل على اغتراب الإنسان، والقصد منه أن يرد الإنسان إلى وضعه الطبيعي كموجود في العالم، ويكشف إمكانياته وموضوعاته ووجوده وسط الأشياء. كما أن تعليق الرؤية باستقرار الجبل، والجبل مستقر، إحالة إلى الجبل، أي إلى العالم الطبيعي وإلى الكون بدلا من الخروج عنه والذهاب إلى ما ورائه. كما أنه إثبات للسكون والثبات وأن تتحول النظرة من خارج العالم إلى داخله. وتستحيل الرؤية الحسية نظرا لحاجتها إلى المكان والجهة والطول والعرض والعمق، وهي كلها من صفات الحدوث. كما أن الهدف من الاستحقاق ليس هو الجنة بالضرورة ونعيمها ولذة الرؤية إلى الله، وإلا كانت رؤية الله مثل نكاح الحور العين والأنهار التي من عسل مصفى والتين والزيتون والرمان. تعالى الله عن هذا الوصف وعن هذا المستوى من الموضوعات. وقد تكون رؤية الأنبياء، لو صحت، حالة خاصة، وليست حالة عامة، ومع ذلك فالأنبياء بشر، والله واحد، وما ينطبق على البشر في الرؤية ينطبق على الأنبياء. واختصاص الأنبياء في الوحي في التشريع وحده (تحريم الزواج من زوجات النبي) وليس في أمور العقائد. والصديقيون مثل الصوفية، ينطبق عليهم ما ينطبق على الأنبياء وعامة الناس في الرؤية، أي لا اختصاص لهم في ولاية أو كشف أو رؤية. وكيف تكون الرؤية جائزة في الجنان عقلا وموضوع المعاد نفسه موضوع سمعي؟ وكيف تكون جائزة عقلا تحقيقا لوعد الله، والوعد والوعيد أيضا من أمور المعاد وهي من الأمور السمعية؟

135

ولا يمكن القطع في موضوع سمعي. كما أن اعتبار الرؤية مكافأة يقوم على أخلاق الثواب والعقاب وليس على أخلاق الحسن والقبح لذاتهما. ومن ثم يكون موضوع الرؤية أدخل في الأخلاق التجارية المادية الحسية.

وقد اتفق الصوفية مع الأشعرية على إثبات هذه الرؤية الذاتية مما يدل على أن الموضوع أيضا موضوع صوفي وليس فقط موضوعا عقائديا.

136

فالرؤية بمعنى الانكشاف يوم القيامة علم ضروري، وكل من ينكره ينكر الرؤية. الرؤية بالقلب تبدأ بالحس ويحفظها التخيل ثم تنتقل إلى التصور. التخيل والتصور إدراك ورتبة أعلى من الحس في الوضوح والكشف وكمال النفس. ولما كان ذات الله وصفاته لا يدرك بالحس فإنه يدرك بالخيال والتصور مباشرة. ولا يتم ذلك والنفس في شغل البدن وكدورة صفاته محجوبة عنه. الشاغل والكدر مانعان للرؤية، والتصفية والتنقية شرط لها. يتم إثبات الرؤية إذن إما بإثبات الصفات كما هو الحال عند الأشاعرة أو بالتأويل الحرفي للنصوص كما هو الحال عند المشبهة والحشوية وبعض الفقهاء أو بالتجسيم كما هو الحال عند المجسمة، أو بالرؤية الباطنية كما هو الحال عند الصوفية.

إثبات الرؤية في الآخرة إذن تركيب خطأين أحدهما على الآخر. فالرؤية ليست الإدراك الحسي والموضوع ليس الموضوع الحسي. والرؤية تتم في هذا العالم وليس في عالم آخر لا ندري عنه شيئا إلا عن طريق النقل، والنقل ظن. الخطأ الأول تأكيد مادي، والثاني افتراض وهمي. والمادة والوهم نقيضان يلتقي أحدهما بالآخر كما يلتقي كل طرفين. (4-3) نفي الرؤية الموضوعية

لما كان إثبات الرؤية الذاتية خطوة نحو نفي الرؤية الموضوعية عن طريق قلب النظرة من الخارج إلى الداخل، ومن الإبصار إلى الإدراك، ومن رؤية العين إلى رؤية القلب، فإن نفي الرؤية الموضوعية هو الخطوة النهائية للقضاء على جسمية الله وتصوره كموضوع حسي للرؤية. في حين أن الجدل يجعل نفي الرؤية الموضوعية نقيض إثباتها وأن إثبات الرؤية الذاتية هو مركب الدعوى ونقيضها.

137

ويقوم نفي الرؤية الموضوعية كذلك على السمع والعقل، وبالتالي لا يصبح إثباتها أولى من نفيها وتتعادل القضية.

Unknown page