Min Caqida Ila Thawra Tawhid
من العقيدة إلى الثورة (٢): التوحيد
Genres
تتضمن الحجة، وهي حجة الأشعري، خلطا في معنى الوجود، فليس كل وجود يرى. هناك وجود الأفكار والمثل والغايات والأهداف، وهناك وجود الروح، ومنها وجود الله غير المتعين. وهو ما يقوله الأشاعرة أنفسهم في أن واجب الوجود غير ممكن الوجود، وأن وجود القديم غير وجود الحادث مما يدل على غياب اتساق مذهب الأشعرية مع نفسه. لذلك يثبت الأشعري الرؤية عن طريق القياس ومع ذلك ينفي أوجه التشابه بين الله موضوع الرؤية والشيء الموجود والحادث. فما المقياس؟ وفيم يقع القياس وفيم لا يقع؟ وبالتالي يكون اعتراض المعتزلة قائما، وهو: ما السبب إذن في الاختلاف بين الذوات؟
120
والحجة الرابعة جدلية خالصة تقوم على أن النفي إثبات؛ لأن كل نفي نفي لشيء، ولا يمكن نفي شيء إلا إذا كان موجودا ومثبتا من قبل. وبالتالي فإن نفي الرؤية يعني إثباتها. فنفي الشيء يعني أنه موجود أولا ومنفي ثانيا.
121
والحقيقة أن النفي يمكن أن يكون للمعدوم وليس فقط للموجود. كما أن النفي ليس إثباتا، بل إن الإثبات هو نفي النفي.
وهناك حجج أخرى خطابية عامة، مثل أن الرؤية لا تؤدي إلى حدوث أو تشبيه بالضرورة، وهذا نقل الفرع إلى الأصل، فالرؤية فرع التشبيه. والحقيقة أن إثبات الرؤية إثبات للتشبيه، فلا وجود لشيء اسمه رؤية بلا كيف؛ لأن الرؤية بالضرورة كيف، والكيف بالضرورة وقوع في التشبيه. أو أن يقال: كان الرسول ينظر إلى جبريل ويسمع كلامه، ومحل الله مثل جبريل. ويبدو أن الأدلة كلها هي قياس الغائب على الشاهد. تتراوح بين الجدل والخطابة وينقصها البرهان.
122
ولا يعني بالضرورة افتراض الإدراك بالبصر الرؤية، فقد تعين العين على الجسم المرئي ولا تتم الرؤية. وقد يتجه الحدس إلى المعنى وتتم الرؤية. فالرؤية لا تعني بالضرورة وجود العين والجسم. وقد توجد العين ويوجد الجسم ولا تتم الرؤية، بل يحدث مجرد انطباع حسي غير مدرك وانتقال صورة الجسم في العين إذا لم يكن الوعي منتبها حتى يتم الإدراك. وهذا هو معنى
لا تدركه الأبصار . ولا يمكن أن يكون المعنى جسما، بل يظهر المعنى في تجربة حية في الشعور . قد تكون له حوامل واقعية، وهي التجارب والمواقف، ولكن يظل المعنى مستقلا عنها، أشبه بدلالة مستقلة أو ماهية، وهي تعادل الواقع الشعوري. ومن ثم ليس التنزيه شيئا مرئيا، بل هو معنى أو عملية إدراك المعاني واستبصارها والبحث عن الدلالات الأخيرة. ووجه التمدح هو كون المعاني دلالات وليست وقائع محسوسة؛ لأن الوقائع المحسوسة ثبوت وسكون، والتنزيه تعال ومفارقة مستمرة، والتوجه إلى ما هو أبعد. ولما كانت المرئيات ليست وقائع، فكل براهين إثبات الرؤية القائمة على إثبات وجود المرئي لا تؤدي إلى إثبات شيء. ولما كان وجود الإله ليس وجودا حسيا ماديا معينا في المكان والزمان، ولكنه وجود معنوي، كان الخطأ في التفسير أساسا أن تتحول النصوص إلى أحكام وقائع وليس إلى أحكام ماهيات. ولو كان الإله مرئيا لما اختلفت آخر مراحل التوحيد عن أوائله، ولأعلن التوحيد فشله أمام المساواة بين الوجود والرؤية أو الوجود والحسية المادية كما كان الحال في مراحل التوحيد السابقة. فقد كان صراع التوحيد مع إثبات وجود المعاني، والكشف عن بناء الشعور، وإعطائه القدرة على التنزيه، أي التعالي المستمر. كان السؤال ممكنا في مراحل الوحي السابقة، ولكن بعد اكتمال الوحي واستقلال الشعور يصبح مستحيلا. بل إنه في مراحل الوحي الأولى كانت الرؤية مستحيلة، وكان الممكن هو التجلي أو الظهور كما تجلى الله للجبل كأحد المعجزات، تجلي الذات، بالإضافة إلى ظهور الأفعال فيصعق الجبل. هذا في الوقت الذي كانت فيه المعجزة برهانا على صدق النبي وعلى وجود الله. أما في آخر مراحل الوحي، فلم تعد المعجزة برهانا:
وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون (17: 59). وأصبح العقل قادرا على الوصول إلى الحق، والإرادة قادرة على تحقيق الفعل. (4-2) هل يمكن إثبات الرؤية الذاتية؟
Unknown page