Min Caqida Ila Thawra Nubuwwa
من العقيدة إلى الثورة (٤): النبوة – المعاد
Genres
22
وفي الحقيقة إن القضية كلها موضوعة وضعا خاطئا في الإعجاز النظمي؛ فإذا كان الإعجاز الأدبي لا يعني حدوث معجزة على يد الرسول، بمعنى حدوث شيء خارق للعادة، وهو تبليغ رسول أمي بهذا العمل الأدبي الفريد، فذاك تصور للإعجاز على أنه معجزة. وإذا كان الإعجاز هو استحالة التقليد والإتيان بمثله، فهو تحد للقدرة الإنسانية على التأليف والخلق. فالمقصود بالإعجاز تحدي قدرة الآخرين، وليس إظهار قدرة النبي أو قدرة خارجية على يد النبي بمعنى المعجزة التقليدي، وهو الخروج على المألوف وخرق قوانين الطبيعة وهدم مبادئ العقل. ليس الإعجاز بهذا المعنى خرقا لقوانين الإبداع الفني من قبل إرادة خارجية لإثبات صدق النبي، فهذا هو معنى المعجزة القديمة، بل تحدي البشر على الإتيان بمثل هذا العمل الأدبي . والحقيقة أن الإعجاز حتى بهذا المعنى الجديد يظل قاصرا.
فإذا كان المعجز هو النظم، أي ترتيب الكلام على نحو فني لا يمكن معه لأي فنان آخر أن يأتي بمثله، يكون الإعجاز هنا إعجازا أدبيا خالصا. وهذا يحدث في كل عمل فني؛ فالعمل الفني الأصيل لا يمكن تقليده أو الإتيان بمثله، بل إن المقلد نفسه لا يكون فنانا. هذا بالإضافة إلى استحالة فصل النظم عن المعنى والمعنى عن الشيء أو القانون؛ نظرا لارتباط الشكل بالمضمون ارتباطا عضويا، كما يقتضي بذلك تعريف البلاغة عند القدماء. فما يقال إذن عن احتمال أن يأتي الناس بمثله احتمال خاطئ فنيا أساسا، فلا يستطيع فنان أن يقلد عملا فنيا آخر، حتى ولو كان في إمكانية ذلك ولديه العلم والمهارة الكافية، فلا يكون عمله في هذه الحالة عملا فنيا أصيلا، بل مجرد عمل مقلد، وتكون مهارته في التقليد وليس في الإبداع، في الصنعة وليس الطبيعة. ولما كان التقليد أصلا ليس أسلوبا فنيا، وبالتالي لا تثبت استحالة التقليد إعجاز القرآن بقدر ما تثبت أن الفنان الذي يقلد ليس فنانا على الإطلاق؛ فالتقليد في نهاية الأمر ليس طريقا إلى الخلق الفني. (ب) هل الإعجاز في الإخبار بالغيب؟
يتجلى الإخبار بالغيب عند القدماء في القصص القرآني وإخبارنا بأخبار الأولين. لم يعرفها العرب ولم يعرفوا أمثالها.
23
والحقيقة أن العرب كانت لديهم أمثال هذه القصص في أقوال الكهان والقصص العربي، وفي الإسرائيليات التي كانت معروفة في الأوساط العربية اليهودية، بل إن أسباب نزول القصص هي معارضته للقصص القائم، قصصا بقصص حتى لا يكون المسلمون أقل قصصا من غيرهم. والماضي ليس غيبا؛ فحوادث الماضي قد وقعت بالفعل ويمكن معرفتها عن طريق علم الآثار ودراسة الوثائق والحفريات؛ فالقصص القرآني بهذا المعنى وذكر أخبار الأولين ليس بمعجز؛ إذ يمكن للوثائق والحفريات وعلوم التاريخ أن تقوم بذلك. وحتى لو حدث ذلك، لو أخبر القصص القرآني بأخبار الأولين كما تفعل الوثائق في علوم التاريخ، فليست المعجزة في أن هذا النبي الأمي يقص هذا القصص ولم يكن مؤرخا ، ولا عالم آثار، أو حتى كاتبا؛ فذلك أيضا تصور للإعجاز الجديد على أنه معجزة قديمة بالمعنى التقليدي؛ أي خرق قوانين الطبيعة، كما أن حجة الأمية لتوحي بأن محمدا هو مؤلفها؛ وبالتالي تؤدي إلى إنكار الوحي، بل إن الإعجاز هو أخبار السامعين بحوادث مضت واندثرت، وتضاربت فيها الآراء، وضاعت الحقائق وسط الظنون والأوهام. الإعجاز هو إمكان التحقق من صدق هذا القصص بنتائج البحوث التاريخية الحالية، والتحقق من صدق روايات القرآن عن عقائد الأمم السابقة وأحكامه عليها بالنتائج الحالية لعلوم النقد التاريخي للكتب المقدسة. والحقيقة أن الغاية من القصص لا هذا ولا ذاك، بل إعطاء الدرس الأخلاقي من التجارب السابقة، والاستفادة من الرصيد التاريخي للإنسانية وخبراتها؛ فهو قصص تعليمي وليس إخباريا، يحتوي على معان ولا يشير إلى حوادث. هو إعادة عرض للمعاني عن طريق الوعي التاريخي وليس الوعي الفردي، وعرضه كقانون للتاريخ وليس كمعنى مستقل. وهذا التحقق التاريخي للمعنى هو أحد براهين صدقه بالإضافة إلى البرهان النظري العقلي.
24
وقد يتمثل الإخبار بالغيب لا في قصص الأولين والإخبار عن الحوادث الماضية، بل في التنبؤ بحوادث المستقبل والإخبار بها، وهو أقرب إلى الغيب من أخبار السابقين؛ لأن المستقبل لم يقع بعد في حين أن حوادث الماضي قد وقعت؛ فعدم العلم بها ليس غيبا إلا بمعنى الجهل بالمعلوم، كما أن وقوع حوادث يعلمها البعض ولا يعلمها البعض الآخر لا تكون غيبا، والإخبار بها لا يكون تنبؤا بالمستقبل.
25
والحقيقة أن الإخبار بحوادث المستقبل ليس إخبارا بالغيب بمعنى معرفة المجهول الذي لا يقع، بل هو قدرة على معرفة مسار الحوادث في المستقبل بناء على تجارب الماضي والمعرفة بتاريخ الأمم والشعوب؛ فالتنبؤ قائم على معرفة بقوانين التاريخ، وليس اكتشاف علم غيبي لا وجود له. هو تحقيق قوانين التاريخ في المستقبل، كما تحققت في الماضي. وحتى لو كان محمد أميا، فإن معرفة قوانين التاريخ لا تحتاج إلى قراءة أو كتابة أو معرفة بالآثار والوثائق، بقدر ما هي معرفة فطرية بحركة الشعوب؛ فالوعي التاريخي أساس الوعي السياسي، ويتمتع القائد السياسي والزعيم المحنك بكليهما، حتى ولو كان أميا، وتاريخ القادة والزعماء شاهد على ذلك. لا تعني النبوة إذن الإخبار عن المستقبل بمعنى الإخبار بالغيوب؛ لأن الإخبار بالمستقبل ممكن باستقراء حوادث التاريخ، ورصد تجارب الأمم، وتحليل الأوضاع الحاضرة، ومعرفة مصير الأمة طبقا لقوانين التاريخ. وهذا علم إنساني، علم التاريخ، أو فلسفة التاريخ، أو علوم المستقبل، وليس علما غيبيا، فلا شيء يحدث في العالم في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، إلا ويمكن للإنسان معرفته. وجعل الإعجاز الجديد إخبارا عن الغيب وتنبؤا بالمستقبل هو رجوع بوظيفة النبوة إلى الوراء، وهي ليست وظيفة الوحي في مرحلته الأخيرة. ليس الإخبار عن الغيوب دليلا على النبوة أو أحد أوجه الإعجاز القرآني؛ فليست وظيفة النبوة الإخبار بالغيب والتنبؤ بالمستقبل، كما كان الحال في مراحل الوحي السابقة، ولكن يمكن معرفة المستقبل باستقراء حوادث التاريخ، وقوانين التطور البشري التي تثبت وجود قوانين لبقاء المجتمعات أو لفنائها، ابتداء من قوانين السلوك البشري الفردي أو الجماعي. يمكن إذن باستقراء السلوك الحاضر لجماعة معينة في الماضي والحاضر معرفة مصيرها في المستقبل، وليس هذا غيبا، بل معرفة للمستقبل بناء على شواهد في الماضي وقرائن في الحاضر. إن تحقيق النبوة ليس تنبؤا بالغيب، بل قراءة للحاضر في الماضي عن طريق استقراء حوادث الماضي ومعرفة قوانين التطور، وقراءة للماضي في الحاضر عن طريق إسقاط الحاضر على الماضي وتحويله إلى ماض نمطي موجه وقرائن الحاضر. فهناك قوانين للصراع الاجتماعي والتاريخي فيما يتعلق بالهزيمة والنصر. فعندما يتعادل الحق والباطل، أي عندما يتصارع باطلان، تكون الغلبة يوما لهذا ويوما لذاك؛ فالأمر يعود إلى القوة المحضة التي لا يساندها حق، وعندما يكون الصراع بين الحق والباطل فالغلبة بالضرورة للحق على الباطل، إن لم يكن في الحاضر ففي المستقبل، ولو كانت معظم النبوءات تعبيرا عن الأول في النصر، تخبر بها الجيوش شحذا لعزيمتها وتقوية لمعنوياتها، ثم تتحقق الرؤية ويظن أنها تحقق للنبوءة.
Unknown page