Min Caqida Ila Thawra Nubuwwa
من العقيدة إلى الثورة (٤): النبوة – المعاد
Genres
وقد توفرت الدواعي نظرا لغرابتها وشهرتها على نقلها متواترة، ولكن لم يحدث، وظلت آحادا؛ مما يدل على أنها رؤية أفراد؛ أي إدراك ذاتي لمعجب أو لجمهور أو خطأ حواس لمخدوع. ولا يمكن إثبات المعجزات بالاضطرار أو بالنظر والاستدلال القائم على التواتر؛ فالمعجزات لم تتواتر إلا بعد أن كانت آحادا، وربما كانت بدايات الآحاد وضعا؛ فهي تفقد إذن شروط التواتر. لقد وضعت الأحاديث التي تروي المعجزات في فترة متأخرة، ثم نسبت إلى مبلغ الوحي، ثم اختلقت الشواهد الحسية والوقائع المعينة والتحديدات الزمانية والمكانية؛ للإيحاء بأن الراوي إنما قد روى عن مشاهدة مباشرة ومعاينة للوقائع ومعاصرة للأزمان. وهذا معروف في تاريخ الأديان؛ فقد حدث نفس الشيء في رواية الإنجيل الرابع عندما أعطى الراوي التحديات الزمانية والمكانية ووصف الوقائع المادية؛ ليوحي بالمعاصرة مع أنه موضوع في عصر متأخر. وهناك عدد آخر من الروايات لا تذكر المعجزات وتسكت عن تكذيبها. والسكوت ليس دليلا على التصديق وإن لم يكن دليلا قاطعا على التكذيب، كما أن السكوت ممكن على اختلاف الأحاديث الراوية للمعجزات وفي عصر متأخر، ولو كانت موضوعة في عصر متقدم لأمكن تكذيبها، وإذا كان العصر المتأخر هو الذي وضع الأحاديث فإن ذلك يدل على أنها حاجة اجتماعية شاملة تعم الجميع؛ الرغبة في تعظيم الأشخاص. فالسكوت عليها ليس سكوتا في الحقيقة، بل تعبير عن رضا جماعي، لا عن تواطؤ، بل عن حاجة. وقد كان في كل عصر من يكذب هذه الأحاديث، إن لم يكن بالنقد الخارجي فبالنقد الداخلي اعتمادا على العقل؛ ففي عصر النقل والتفسير بالمأثور كان الغالب هو النقد الخارجي للرواية، ولكن في عصر متأخر ظهر النقد الداخلي القائم على العقل، وبدأ الشك في المعجزات ليس فقط كرواية ولكن أيضا كموضوع، ليس فقط في السند ولكن أيضا في المتن، ليس فقط في الوضع التاريخي بل أيضا في خلق الواقعة. وربما في عصر آخر تصبح رواية المعجزات أكثر ضررا على الأمة من أي شيء آخر، إذا ما كان الجيل يدعو إلى التأكيد على سلطان العقل، ودور العلم، والاعتماد على الحرية والتخطيط، وليس على إجراء المعجزات.
ولا يتعلق الأمر بالسند وحده، بل يتعلق أيضا بالمتن؛ أي بصياغة الخبر؛ فالتواتر وإن كان شرطا في السند إلا أن النقل الحرفي هو شرط المتن، بلا زيادة أو نقصان، أو تقديم وتأخير، أو إظهار أو إضمار. والنقل بالمعنى مثل خبر الآحاد لا يورث المعجزات زيادة أو نقصانا، وفي وصفها إجمالا أو تفصيلا مدعاة للشك فيها؛ وبالتالي في رواياتها، وعادة ما يكون الاتجاه في الرواية نحو الزيادة أكثر مما هو نحو النقصان؛ فكلما زاد التعظيم والإجلال زادت قدرة الخيال الشعبي على خلق الوقائع في السير وتاريخ الأبطال، وكلما حضر المعنى وتوترت النفس به نسج الخيال وقائع دالة عليه؛ فالمعنى هو الذي يخلق الواقعة أكثر مما تدل الواقعة على المعنى. ويحدث ذلك إذا ما كانت هناك واقعة واحدة نمطية تستخدم كأصل في القياس الشعوري، فتختلق طبقا له عدة وقائع أخرى على نفس المنوال، وإذا ما تم ذلك في بيئة ثقافية وسياسية مواتية، مثل الأمية والقهر السياسي، يزداد عمل الخيال من الدعاة والقصاصين والرواة؛ إلهاء للناس عن مشاكلهم اليومية، وإغراقا في الإعجاب بسيد المرسلين. فيسر الحاكم الجالس وراءهم والمستفيد من مدح المداحين مرة لسيد المرسلين وخاتم النبيين، ومرة لأمير المؤمنين ورئيس المجاهدين.
ولا يعني إنكار هذه المعجزات القديمة الظنية إنكار وقوع النبوة؛ فوقوع النبوة لا يثبت حتى بالمعجزات المتواترة بهذا المعنى القديم، ولا يعني وجود قدرة مطلقة، إنها تثبت إطلاقها وسلطانها بالوقوف أمام قدرات أخرى؛ قدرة العقل وقدرة الطبيعة، بل الأقرب أن تكون متفقة مع العقل والطبيعة. وما دام العقل أساس الوحي، وأن بديهيات العقل ومسلماته هي ذاتها حقائق الوحي وتصوراته، فلا يكون هناك أي دور للمعجزة. النبوة طريق لإيصال الوحي، والوحي هو العقل، ولا حاجة إلى دليل لإثبات النبوة أو لصدق النبي إلا اتفاق رسالته مع العقل. ليس الشك في هذه المعجزات القديمة غياب التحدي منها، بل لوقوعها ومعارضتها للعقل والطبيعة ولجوهر الوحي في آخر مراحله. إن إثبات صدق المعجزة بصدق الرواية حتى ولو كانت متواترة، هو إثبات صدق خارجي بصدق داخلي آخر، وابتعاد عن الصدق الداخلي للنبوة مع مزيد من التضحيات بأوليات العقل وقوانين الطبيعة وشعور الجماعة، ورجوع بالوحي إلى الوراء، إلى مراحله الأولى، وكأن الإنسانية لم ترتق، وكأن وعيها لم يكتمل باستقلال العقل وحرية الإرادة. وما الفائدة من جعل النبي هرقلا؟ لقد كان من الصحابة مثل عمر خاصة معجبا بجانبه الإنساني؛ بشخصه وبعدله وبمبادئه وبرعايته لمصالح الناس، وكان العقلاء معجبين برسالته وبشريعته دونما حاجة إلى إجراء المعجزات. وهل حديث الحيوانات وشهادة الإبل بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله شرف للتوحيد؟ وأين البراهين على وجود الله والدلائل على صدق النبوة إمكانا ووقوعا، هل تفهمها الإبل؟ إن هذا الجانب لأضعف أجزاء علم أصول الدين مع أمور المعاد، ولا يوازي الذات والصفات والأفعال. صحيح أنها ضمن السمعيات دون العقليات، ولكن يمكن نقل السمعيات خطوة نحو العقليات، وجعلها كلها عقليات. وقد كانت في الطريق إلى ذلك لولا توقفها في المرحلة الأولى للحضارة الإسلامية في القرون السبعة الأولى. (ب) تصنيف المعجزات
لو كانت المعجزات في كتب موحى بها لطبقت عليها عدة مناهج، مثل تحليل الأشكال الأدبية.
8
ومع ذلك يمكن إجراء ذلك على متون الحديث بالرغم من ظنيتها، ويكون مقدمة نحو نقل السمعيات إلى العقليات، ونحو نقل العلوم النقلية، مثل علوم السير والحديث إلى العلوم العقلية. وسيقتصر التحليل على شيئين: الأول وضع المعجزات في إطار تاريخ الأديان؛ فقد صيغت بناء على أنماط مثالية سابقة معروفة ومروية في الجزيرة العربية، وشكلت خيال الرواة للدين الجديد، وربما وضع كثير منها في نطاق دسائس اليهود والنصارى إرجاعا للإسلام إلى المراحل السابقة، وطمسا لخصائص الدين الجديد؛ لأنه على مستوى المعجزات لا يمكنه الصمود أمام القدر الهائل منها في النبوات السابقة. والدليل على ذلك وضع علماء أصول الدين ما يسمى بالمعجزات الجديدة في إطار المعجزات القديمة، وكيف اجتمع لخاتم الأنبياء كل المعجزات القديمة بعد أن كانت متفرقة في الأنبياء السابقين، وكأنها مباراة ومنافسة في إجراء المعجزات، كما وكيفا.
9
والثاني تصنيف المعجزات في مجموعات متناسقة من حيث مادتها، طبقا للبيئة الجغرافية، وهي بيئة الصحراء التي كانت الإطار المادي للخيال الجديد. فإذا كانت المعجزات المروية في علم أصول الدين وحده تتراوح ما بين الأربعين والخمسين، فإنه يمكن تصنيفها في سبع مجموعات تتعلق بالفلك أو الطبيعة أو الجماد أو النبات أو الحيوان أو الإنسان أو المجتمع. (1)
فبالنسبة للفلك تروى معجزات؛ الأولى شق القمر أو انشقاق القمر أو انفلاق القمر. والاختلاف في الصياغات يدل على عملية التخييل والخلق الفني.
10
Unknown page