Min Caqida Ila Thawra Nubuwwa
من العقيدة إلى الثورة (٤): النبوة – المعاد
Genres
فإذا كان نوح وإبراهيم وموسى ومحمد أنبياء زعماء، ورسلا قادة، فهل الأمر كذلك عند عيسى؟ يبدو أن أولي العزم ليسوا فقط أنبياء زعماء، ورسلا قادة، بل هي مراحل أساسية في تطور النبوة؛ عيسى للحقيقة، ونوح وموسى للشريعة، وإبراهيم ومحمد للدين الطبيعي. وقد يستبعد آدم؛ لأنه لم يكن له عزم بسبب الغواية. وقد يوضع يوسف وأيوب ضمن الخمسة؛ لأن كلا منهما صاحب بلاء وصمود. ويخضع ترتيب الخمسة إلى التطور الزماني للوحي في التاريخ.
وآخر الشرائع ناسخة لكل الشرائع السابقة، بفعل التطور وارتقاء التاريخ واكتمال النبوة. ولما كانت لا توجد شريعة بعدها فهي ناسخة لا منسوخة، وباقية في التاريخ كبناء بعد اكتمالها كتطور، ولا يعني ذلك استمرار تغير المصالح والمنافع وبقاء الشريعة على ثباتها الأول، بل يعني أن أسسها العامة أصبحت تعبر عن كمال العقل وازدهار الطبيعة، وأن التغير بعد الاكتمال إنما هو في التفاصيل وطرق التطبيق، وذلك متروك للاجتهاد وطرق الاستنباط. أما العقائد النظرية فلا نسخ فيها، مثل التوحيد والعدل والمضمون الاجتماعي للرسالة، ومستقبل الإنسانية (المعاد).
20
ولماذا يخرج عمل الفرد ونظام الدولة، وهما الموضوعان الأخيران في السمعيات، من العقائد النظرية؟ أما سؤال على أي شرع كان خاتم الأنبياء قبل البعثة فهو سؤال شخصي لا يمس جوهر الرسالة، فحياة الرسول قبل البعثة ليست جزءا منها، وحياته بعد البعثة تطبيق لها وليست جزءا من البعثة بذاتها. ومع ذلك فالإجابة على السؤال هي أنه لم يكن على شريعة سابقة، بل كان على دين الفطرة، دين العقل والطبيعة، أصل دين إبراهيم، فشريعة موسى أصبحت منسوخة بشريعة عيسى، وشريعة عيسى لم يتم نقلها نقلا صحيحا ووقع التحريف فيها، والصحيح منها نقله رواة لم تسلم عقائدهم النظرية أيضا من التبديل والتحريف، وفي مقدمتها استبدال التثليث بالتوحيد، والذين سلموا من التحريف النظري قلة لا يبلغ عددهم يقين التواتر.
21
ولا يعني اكتمال الوحي إلغاء الرسالات وإعدام الأنبياء، بل يعني أن العقل هو وريث الوحي، وأن الوحي قد أكمله وبه استقل الشعور، فلا يقال إن الأنبياء اليوم ليسوا أنبياء ولا إن الرسل رسل، وإن رسول الله ليس كذلك الآن؛ لأن ذلك خلط بين مراحل التاريخ. كان الأنبياء أنبياء وكان الرسل رسلا، وأدوا أدوارهم في التاريخ، وتحققت غاية الوحي المرحلية، وهم كذلك الآن تاريخيا، ولكن بطبيعة الحال، لا يظهرون اليوم كأنبياء وكرسل من جديد؛ فقد تطور الزمان، وتحققت الغاية، واكتملت النبوة، وأصبح العقل قادرا على التمييز بين الحسن والقبيح، والإرادة حرة قادرة على الاختيار؛ فالقول إذن خلط في مراحل التاريخ بين الماضي والحاضر، بين الوسيلة والغاية، بين الوقوع والاكتمال، بين التطور والبناء. وإذا كانت الحجة في ذلك أن الروح عرض، وأن العرض يفنى أبدا ولا يبقى زمانين، فإن ذلك يكون خلطا بين المستوى الطبيعي والمستوى الإنساني؛ فالروح ليست عرضا بل هي جوهر مستقل، وهي ليست فانية، بل باقية من حيث هي فكر، كما أنه خلط بين المرسل إليه والرسالة، بين الشخص والمبدأ، فإن فني المرسل إليه فالرسالة باقية تواترا عبر الأجيال، شفاها أو كتابة، نظرا أو عملا، عقيدة أو شريعة، وإن انقضى الشخص فالمبدأ يتمثله الإنسان، وتحققه الجماعات، وتطبقه الأمة، ويكون أساس الدولة.
22
وقد استطاعت الحركة الإصلاحية الحديثة إدراك تطور الوحي، من خلال مفهوم التقدم، وأن مراحل الوحي الكبرى تنتهي إلى كمال الإنسانية ممثلة في استقلال العقل وحرية الإرادة، وتشبيه الإنسانية بالكائن الحي وأدواره من الطفولة إلى الصبا ثم إلى الرجولة. هناك إذن تواز بين تطور الوحي ورقي الإنسان واكتمال كليهما في آخر مرحلة فيه. أخذ الوحي طابعا تجريبيا تعليميا للإنسان تأكيدا على أهمية التجربة وتكييفا للشريعة طبقا لقدرات الإنسان وطاقته، فإذا ما تحققت غاية النبوة اكتملت؛ فالنبوة وسيلة لا غاية، والوحي طريق وليس نهاية، وتلك كانت الحكمة من التطور والتدريج والمراحل؛
23
لذلك تخاطب الأديان العقل والحس والوجدان؛ حتى تكتمل إدراكات الإنسان، وتزدهر وسائل معرفته. تخاطبه بالعقل وتطالبه بالبرهان، وتجمع بين الحس والعقل، بين التجربة والمنطق، وترفض التقليد واتباع الآباء والأجداد بلا برهان، وتدعو إلى الاجتهاد وإلى إعمال النظر، وتحث على العلم والتفقه، وتجعل العلماء ورثة للأنبياء. ووصل العقل إلى درجة من الكمال في المرحلة الأخيرة، حتى إدراك الذات والصفات والأفعال، وصل إلى أعلى درجة في التنزيه ضد مظاهر التأليه والتجسيم والتشبيه في المراحل السابقة. لقد كان من أهم مهام الوحي توضيح اللبس في النظر، وإزالة الخلط في المبادئ العامة، ورفض الشرك والتوسط والأسرار والتقاليد، وكل ما يعارض العقل من وهم وظن وشك، والتأكيد على الوضوح والتميز والبداهة في النظر والعمل، في العقيدة والشريعة؛ مما يفسر سهولة الإسلام ويسر أحكامه وعدالة شريعته. أصبح الإسلام لذلك دين الفطرة، دين العقل والطبيعة والحرية، ينتشر بسهولة ويسر دون غزو أو قوة أو سيف، وفي نفس الوقت أصبح الإنسان قادرا على التأثير في الطبيعة، وقادرا على الاختيار الحر؛ فاستقلال العقل مطابق لحرية الإرادة، وإعمال النظر متزامن مع الالتزام وتحمل المسئولية. وقد ظهرت ممارسات الحرية في الواقع في نظم الحكم التي سادت في الأندلس، حتى هاجر إليها يهود أوروبا هربا من الاضطهاد الديني، كما ظهر في الحركات الإصلاحية الحديثة الإحساس بالتماثل بين الوحي وبين ما ظهر في أوروبا في عصر التنوير، من إعلاء لمبادئ استقلال الفكر وحرية الإرادة، واعتماد على العقل والطبيعة، وحرص على التقدم ورؤية للإنسان وللمجتمع، وبالرغم من حملة الغرب على الشرق حملة واحدة إبان الحروب الصليبية لمدة مائتي عام، إلا أنهم رجعوا منه بالعلم والفكر، ثم أصلحت أوروبا حالها، واعترف الغرب بفضل الإسلام وما نهل منه، وما كان وراء نهضته الحديثة من عقلانية وتنوير.
Unknown page