Min Caqida Ila Thawra Nubuwwa
من العقيدة إلى الثورة (٤): النبوة – المعاد
Genres
والحقيقة أن كل هذه التصورات لمكان الروح إنما هي شخصية خالصة طبقا لاختيار المكان. فكيف تكون أرواح السعداء فوق أبنية القبور، وهي كما تعلم من حال المقابر مكان الموبقات والفارين والهاربين واللصوص والأشقياء؟ وإذا كان اختيارها لزمزم ما يبرره، فما سبب اختيارها لجابية الشام؟ هل لأن هناك بيت المقدس؛ وبالتالي تكون هناك عدالة في التوزيع والاختيار بين القبلتين مكة والقدس؟ ولماذا تصعد في البرزخ عند آدم في السماء الدنيا وتترك الأرض؟ وهل السماء مكان؟ وأين يكون التفاوت في الأرض، على أفنية القبور أو في مكة أو في القدس؟ ولماذا تكون أرواح الأشقياء في حضرموت؟ هل لأسباب جغرافية صرفة؛ الحر، الجفاف، أم لأسباب سكانية؛ الوحدة والعزلة ووحشة الصحراء، أم لأسباب سياسية؟ ولماذا لا تتفاوت مراتب الأرواح في الأرض طبقا لسوء الأعمال؟ وإذا كانت الأرض عيبا تبقى فيها الأرواح الشريرة ولا تصعد إلى السماء، فإنها أيضا إحدى اختيارات الأرواح الطيبة. وكيف يمكن التمييز بين الأرواح الطيبة والأرواح الخبيثة والحساب لم يتم بعد، والأعمال لم تعرض بعد، وكأن الحكم قد صدر قبل الدفاع؟ ونظرا لهذه الصعوبات كلها في تصور الروح مسبقا يمكن التوقف عن الحكم، وتفويض الأمر، والإمساك عن الخوض فيه.
40
وقد يستدل على عدم الخوض فيها، وبأنها سر ضد الاعتقادات الشائعة، بأنها شيء يخرج من فم الميت، وبأنها كالهواء أو الأثير عند الطبائعيين المتأخرين، أو كالحيوانات الصغيرة جدا التي توجد في الحياة، والتي لا ترى حتى بالمجسمات والمكبرات للمرئي، أو كالعقار الصغير، أو شرارة النار، أو الجزء الصغير من السم، أو المغناطيس غير المرئي وخاصية الجذب ولا يرى بالعين؛
41
فالتفويض نفسه يقوم على تصور مادي للسر الذي يراد الإمساك عنه!
وإذا كان التصور المادي للروح قد غلب على علم أصول الدين، فقد ظهر التصور العقلي للروح في علوم الحكمة بتعريف الروح على أنها هي العقل، وبعد أن طغت علوم الحكمة على علم أصول الدين في المرحلة المتأخرة، وقبل مرحلة العقائد والشروح. وفي الوقت نفسه يسهل هذا التعريف إثبات خلود النفس والقول بخلود العقل كحل وسط بين الفناء والبقاء، وكرد على البيئة الحضارية القديمة؛ وبالتالي ينتقل موضوع الروح من مستوى البيولوجيا والفيزيقا إلى مستوى الميتافيزيقا والحكمة، ومن شهادة الحس إلى بداهة العقل، ومن النفس الحية إلى النفس الناطقة؛ فالعقل أحد قوى النفس، وقد توجد النفس دون عقل كما هو الحال في المجنون والصبي والطفل. والعقل نظري أو عملي. الأول قوة على أفعال الفكر والرؤية، أو الحدس والاعتقادات؛ والثاني قوة عملية على الأفعال السلوكية. قد يطلق على الأول الجوهر المتعلق بالجسم تعلق التدبير والتصرف، وهو المشار إليه في حديث «أول ما خلق الله العقل»، وحال النفوس بالقياس إليه حال الإبصار بالقياس إلى الشمس. والثاني مستمد من المعنى اللفظي للعقل المستمد من «العقال»؛ أي المنع، في فك العقال؛ أي في حرية السلوك. لذلك ارتبط العقل بالعلم والتكليف؛ فهو أداة العلم وشرط التكليف. وإن تفضيل العقل على العلم أو العلم على العقل لهو إدخال حكم قيمة في حكم واقع. العقل وسيلة العلم وأداته، وليس أحدهما بأفضل من الآخر. أما أنواع العقل فهي كلها إسقاطات إنسانية وصور فنية لشيء واحد هو الوعي العاقل والتجربة العاقلة. العقل الغريزي الذي يتهيأ به الإنسان لإدراك العلوم النظرية هو الوعي في بداية تعقله. والعقل الكسبي الذي يكتسبه الإنسان من معاشرة العقلاء هو التجربة العاقلة والقدرة على التعلم. والعقل العطائي الذي يعطى للإنسان لتوجيهه العلمي هو العقل الحدسي، الذي به يدرك الإنسان الحقائق النظرية فجأة بلا تعمد وروية، والذي به يتوجه نحو الخير بالإرادة الطبيعية. وعقل الزهاد الذي يكون به الزهد هو العقل الفاعل، العقل الإرادي الذي به يأخذ الإنسان موقفا من العالم. والعقل الشرفي هو العقل الكامل الذي لا يكون لشخص بعينه فحسب، مثل النبي، بل يكون للحكيم الذي يستطيع أن يصل به إلى أعلى درجات الكمال النظري والعملي. وهو في كل الحالات عقل إنساني صرف، وعي خالص، أكثر من العقل البيولوجي المرتبط بقوى النفس الحية، وأقل من العقل الإلهي الحاصل على النور الرباني. هو أقرب إلى عقل الحكماء منه إلى عقل المتكلمين أو الصوفية.
42 (ب) هل الروح متميزة عن البدن؟
والحقيقة أنه لا يهم معرفة الروح وحدها أو البدن وحده، بل ما يهم هو معرفة هل الروح متميزة عن البدن من أجل إثبات المعاد الروحاني. فإذا تميزت الروح عن البدن، وكان البدن فانيا، ثبت بقاء الروح بعد فناء البدن؛ وبالتالي يثبت المعاد الروحاني. يتوجه السؤال الآن ليس إلى الروح وحدها أو إلى البدن وحده، بل إلى الأنا؛ هل هي واحد أم مركب من اثنين؟ هل الأنا جسم، أم نفس وجسم، أم نفس خالص؟
43
فإذا كانت الأنا جسما، فهل يكون البدن هو الأنا؟ هل يكون الأنا هو البدن من أول العمر إلى منتهاه، في كل أجزائه وصوره؟ هل هو البنية المحسوسة أو العضو الحي؟ وكيف تكون الأجزاء الداخلة فيه والخارجة عن هويته أجزاء من الأنا؟ وقد يكون الأنا جزءا لا يتجزأ من القلب، أو أجزاء لطيفة سارية في الأعضاء، أو روحا لطيفة في الجانب الأيسر من القلب أو الدماغ، وقد يكون هو الأخلاط الأربعة في المزاج أو الدم، وقد يكون عبارة عن الحياة. وهنا تظهر الأنا على أنها الأنا البيولوجي الذي يتحدث عنه الأطباء، ويتعاملون معه في حالة التشخيص والعلاج.
Unknown page