Min Caqida Ila Thawra Muqaddimat
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
Genres
وفي دوائر المعارف المتأخرة، ظهرت نظرية العلم أيضا متداخلة مع نظرية المنطق. فبعد تحديد العلم وتعريفه باعتباره نظرية في المنطق قل الفصل بين العلم والوجود، وأصبح المنطق هو علم الوجود، وأصبح لدينا علم صوري واحد يتحدد في المنطق باعتباره نظرية في العلم، وفي الوجود باعتباره نظرية في المنطق. وظهر ذلك أساسا في أحكام العقل الثلاثة: الواجب والممكن والمستحيل.
27
وقد شملت نظرية العلم في المؤلفات المتأخرة تحليلا للعقل والوجود، والعقل هنا يشمل الحس والوجدان، والوجود يضم المنطق والوجود العام. لقد حاول كثير من علماء أصول الدين من قبل التعرض إلى مشاكل العلم وتأسيس نظرية عقلية يقوم عليها العلم. فخرجت مرة عقلية، ومرة أخرى وجودية، وثالثة نفسية، ورابعة جسمية، وخامسة علمية. ولكنها تمت جميعا باسم العقل وكأنها كانت جميعا تحليلات للعقل ولصور العقل. ظهر العقل إذن في أكثر من صورة، فهو في نفس الوقت نظرية في العلم، ونظرية في الوجود، وهو الغالب.
28
وأحيانا يتجاوز تحليل العقل كونه مقدمة عامة للعلم كله إلى أن يصبح مقدمة لكل موضوع كلامي؛ فالحديث مثلا عن مراتب العلوم، والعلة والمعلول، والشرط والمشروط، والحقيقة والحال، وصفات النفس وصفات المعنى يمكن أن يدخل ضمن المقدمة العامة للعلم كما يمكن أن يدخل كأساس نظرية لمسألة الصفات.
29
وأحيانا يتسع تحليل العقل حتى يطغى على الموضوعات الكلامية ذاتها، ويصبح علم أصول الدين مجرد نظرية في العلم ونظرية في الوجود، ويتحول علم «اللاهوت» إلى «أنطولوجيا» عقلية خالصة، وكأن هذا التحول هو مصير كل علم إنساني. فإذا تتبعنا المؤلفات الكلامية لمعرفة نسبة المقدمات النظرية إلى الموضوعات الكلامية نجد أن المؤلفات المبكرة تبدأ كتاريخ للعقائد أو كعرض لها دون مقدمات نظرية تذكر. ثم تبدأ المقدمات النظرية في الظهور تدريجيا حتى تكون في نسبة مساوية للموضوعات الكلامية في المؤلفات المتوسطة . ثم تبدأ المقدمات النظرية في التمدد والانتشار على حساب الموضوعات الكلامية التي تبدأ في الاختفاء تدريجيا حتى تصبح هذه المقدمات النظرية التي تشمل على تحليل العقل هي العلم كله، وكأن «اللاهوت» لا يظهر إلا في مرحلة مبكرة في بناء العلم، ولكن بعد أن يتطور العلم ويكتمل يتلاشى اللاهوت، ويظهر التحليل العقلي الأنطولوجي الخالص.
30
وفي آخر ما وصل إلينا من مؤلفات كلامية بدأت الإلهيات في الاختفاء تماما، وأصبحت تسمى «العقليات» أو الواجب، وهو الوجوب العقلي، ولم يتبق من علم أصول الدين القديم إلا السمعيات.
31
Unknown page