Min Caqida Ila Thawra Muqaddimat
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
Genres
20
ولا ضير أن يكون الحكم على وجوب المعرفة بالعقل حكما بالوجوب العقلي؛ فالحكم العقلي هو نقطة البداية من داخل العلم، والعقل قادر على أن يكون ذاتا وموضوعا في نفس الوقت. ليس الوجوب العقلي استحالة من حيث الحكم أو من حيث المبدأ أو من حيث إمكانيات العقل. الحسن والقبح العقليان أمران مبدئيان في العقل. لا يحتاج المكلف إلى معرفة مسبقة بحسن الحسن وقبح القبح وإلا تسلسلنا إلى ما لا نهاية. لا يبدأ المكلف إذن بالبحث أو المصادفة أو الاختيار العشوائي لوجوب النظر، بل يبدأ ببداهات العقول. ولا مانع من وجوب النظر على المكلف وهو يعلم بالوجوب؛ وذلك لأن التكليف يقوم على الوجوب العقلي وليس الأمر الإلهي الذي لا سند له ولا أساس في العقل. وليس ذلك تحصيل حاصل بل تأكيد لأوليات العقل وتأسيس للوحي. من شرائط التكليف إذن أن يكون هناك أساس للتكليف، والأساس في العقل أو في الواقع، للفهم أو للنفع، وهو أساس يقيني يقوم على مسلمات العقول، وبداهات الحس، ومعطيات الوجدان. ليس من الضروري أن يرد التكليف بصيغة الأمر، بل يمكن أن يكون شرط أداء الواجبات، وشرط الواجب واجب. هذا بالإضافة إلى أن الأمر صيغة لغوية للأمر ذاته الذي قد تكون له صيغ أخرى مثل الحث والإيحاء والاستعجاب والدهشة.
21
وتتفاوت درجة الوجوب بين الإجمال والتفصيل طبقا للحاجة، وطبقا للاستعدادات الفطرية للإنسان، وطبقا لاتساع المدارك عند كل فرد ومعرفته بقوانين الحياة. فالنظر الإجمالي واجب على الجميع لأنه هو الذي يعطي التصور العام للحياة، ويجعل الإنسان يعيش في هذا العالم ناظرا ومفكرا أي واعيا وداريا. أما النظر التفصيلي فقد يتفاوت من فرد إلى فرد، وطبقا لدرجة التفقه والقدرة على النظر، وحاجة الإنسان إلى البيان. وفي علم أصول الدين المتأخر، في مرحلة التوقف والركود أصبح الدليل المجمل دون المفصل قائما على قصر العقل وحدود المعرفة الإنسانية وليس على مدى الحاجة إليه. كما تحول الدليل الإجمالي إلى مجرد إيمان بالنص الديني. فإذا استطاع البعض البحث عن الدليل التفصيلي، فإنه يكفي الجماعة الدليل الإجمالي. ولكن بزيادة الوعي، ونشر العلم، يمكن لكل فرد أن يقدر على الدليلين معا، الإجمالي والتفصيلي، على حد سواء. وتمحي التفرقة بين فرض العين وفرض الكفاية، وتصبح الخاصة هي العامة، والعامة هي الخاصة. ويمكن ذلك بسهولة إذا كان موضوع البحث يخص عامة الناس، وما يعانون منه ليل نهار؛ أي أحوال معاشهم وليس موضوعا متعاليا لا يقدر عليه إلا قلة منعزلة أو مترفة لا صلة لها بالجماهير وواقعها إن لم تتكسب من ورائها وتدعي لنفسها العلم، وتعطي لنفسها حق الأمر، وللجماهير واجب الطاعة.
22
ويعلم كل عاقل وجوب النظر، كما يعلم أن ترك النظر قبح يجب تجنبه لما ينشأ عنه من أضرار ومفاسد. قد يحصل العلم إذن بوجوب النظر عن طريق الاكتساب إذا ما ترك المكلف النظر مرة فأصابه الضرر، وإذا ما قام به مرة أخرى فعاد عليه بالنفع. فيكتسب العلم بوجوب النظر إن لم يعلم وجوبه ضرورة. يقوم وجوب النظر على تحقيق المصلحة ودفع الضرر، وأي مصلحة في دعوة الناس الآن إلى إبطال النظر؟ إذا كنا نعاني من غياب النظر وسيادة التقليد، والتسليم بالأمر الواقع، فإن وجوب النظر يحث الناس على التفكير ويدعوهم إلى رؤية واقعهم والمطالبة بحقوقهم. إذا غاب النظر ساد التسليم ورسخت التقاليد، وانتشرت الخرافة، وعم الجهل، وقويت شوكة السلطة فتجبرت وطغت. فما أسهل قيادة الجماهير المستسلمة والشعوب المقلدة والجماعات الجاهلة.
23
الوجوب العقلي إذن ليس وجوبا صوريا خالصا، بل هو أيضا وجوب واقعي مادي؛ تحقيق المصلحة والفائدة للناظر؛ إذ لا تستقيم الحياة بدون نظر. ومن لا يشعر بفائدة النظر يكون عديم الشعور والإحساس. فائدة النظر فائدة فعلية وليست متوهمة. إن كل من يتوهم ضررا من النظر وفائدة من منعه يكون خاطئا ظانا أو متعمدا. إن منع النظر يعني أن الأبله والمجنون والصبي والغبي أفضل حالا من العاقل الفاهم المستنير المدرك. وما أحلى عند السلطة القاهرة أو الشعوب الغافلة من نعيم الجهل وجحيم المعرفة! لا ينشأ الضرر من الخوف من العقاب في عالم آخر بترك النظر، بل مما يلحق الإنسان في حياته الدنيوية من أخطار ناجمة عن غياب النظر مثل تسلط الآخر عليه ووضع الوصايا على الجماعة وتسييره كالأنعام. الخطر هو فقدان الحرية وضياع الشخصية المستقلة. إن رفض مقياس المصلحة والمفسدة ضياع للأساس الموضوعي للوحي ولعلة وجود الشرع، وأن تصور ضرورة البعثة على غير أساس المصلحة هو جعل البعثة مجرد عطاء لا أساس له ولا غاية، مجرد عبث يسهل بعد ذلك اجتزازه، وتبقى مصالح الناس بلا أساس.
والسؤال الآن: أي المواقف أصلح للبلاد النامية؟ الوجوب السمعي بشرط العقل أم الوجوب العقلي للنظر وحده دون سائر الأحكام أم الوجوب العقلي على الإطلاق؟
24
Unknown page