Min Caqida Ila Thawra Muqaddimat
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
Genres
والعلم عن طريق القسمة والمثال هو أحد طرق العلم المستعملة في علم الكلام؛ إذ تؤدي القسمة إلى التمييز بين المستويات، في الغالب بين الأعلى والأدنى، كما يؤدي المثال إلى القياس والتشبيه. ومع ذلك فطريق القسمة والمثال ليس منهجا علميا يؤدي إلى تأسيس نظرية في العلم، بل أقصى ما يستطيعه هو التصنيف، وقياس الشبيه بالشبيه. وعلى هذا النحو تستحيل معرفة «الله» معرفة نظرية؛ لأن الله لا شبيه له، وإلا وقعنا في التشبيه لا محالة. وهو ما حدث بالفعل في علم الكلام. حتى التنزيه لم يسلم من التشبيه أو على الأقل من ألفاظه وتصوراته ومعانيه. هذا بالإضافة إلى أن التحديد بالقسمة تحديد خارجي محض وليس تحديدا داخليا من بناء الموضوع وماهيته. وهو في حقيقة الأمر ليس حدا، بل ترتيب وتصنيف وبناء لعلاقات الموضوع مع غيره دون وصف لبناء الموضوع ذاته. وعلى هذا النحو يكون العلم «كل اعتقاد جازم مطابق لسبب»؛ فيتميز عن الظن والشك وهما ليسا اعتقادين جازمين. كما يتميز عن الجهل وهو اعتقاد جازم غير مطابق، كما يتميز عن التقليد الذي هو اعتقاد جازم مطابق لغير سبب. التعريف عن طريق التصنيف والترتيب وصف خارجي وليس تحليلا داخليا لمضمون الشيء. وقد تستكمل القسمة بالمثال ويتحدد العلم حينئذ عن طريق المثال، فيقال مثلا العلم مثل إدراك البصر، وحدوث العلم مثل حدوث الصورة في المرآة. ولكن المثال أو ضرب المثل ليس حدا تاما على تقول المناطقة، بل حد ناقص. وقد لا تكون الصورتان مطابقتين تماما من كل ناحية، كما قد يغفل أحد جوانب الصورة أو يقرب بين جانبين مختلفين أو يباعد بين جانبين متشابهين. ليس التشبيه حدا بل هو تقريب للأفهام، ويكون أقرب إلى البلاغة والأدب منه إلى المنطق والعلم. والتمثيل على ما تقول المناطقة أقل يقينا من القياس؛ لأنه يقوم على تشبيه الخاص بالخاص دون منطق البرهان، على ما هو الحال في القياس، وشروط القياس المنتج والفرق بينه وبين القياس غير المنتج. وقد استمر التعريف عن طريق القسمة والمثال في عقليتنا المعاصرة وكما هو واضح في الأمثال العامية من قولنا: «العلم نور» أو «العلم في الصغر كالنقش على الحجر» أو غيرها من الأمثال.
وقد يعرف العلم بالمعرفة، فكل علم معرفة، وكل معرفة علم، وكلاهما دراية تقوم على سكون النفس. وهنا يتم التحديد عن طريق التعريف بشيء يحتاج إلى تعريف، وبالتالي لا يمنع من الوقوع في الدور؛ حيث يكون الموضوع محمولا، والمحمول موضوعا. العلم والمعرفة مترادفان، وكلاهما يتم في الشعور في نسق عقلي واحد. وكلما كانت المعرفة دقيقة لها منهج وموضوع وغاية كانت أقرب إلى العلم منها إلى مجرد الآراء والنظريات المتناثرة؛ لذلك كان العلم أو المعرفة واقعا لكل شيء، بشرط الاعتقاد بالشيء على ما هو عليه بالاعتماد على شهادات الحس وأوائل العقول.
30
وقد حدث هذا الترادف في عقليتنا المعاصرة عندما وحدنا بين المعارف والعلوم بالرغم من أن معارفنا لم تتحد بعد في مناهج دقيقة. فنظن أن كل عارف عالم، وكل عالم عارف، مع أن العلم ليس هو المعارف، بل بناء نظري يتأسس في الشعور، هو نظرية في العقل وفي الواقع وفي الشعور أكثر منه نتائج ومكتشفات لتطبيقها في الحياة العملية.
ولا يمكن أن يكون العلم هو «اعتقاد الشيء على ما هو به»،
31
فقط لأنه إذا كان علما مطابقا فقد ينشأ هذا التطابق عن التقليد وليس عن النظر. والنظر منهج العلم وطريقه؛ لذلك كانت المطابقة في العلم قائمة على الضرورة أو الدليل أي المطابقة مع الحس أو مع العقل. وقد يكون التعريف «معرفة المعلوم على ما هو به» أي مطابقة الحكم للواقع أو كما يقول الحكماء «مطابقة عالم الأذهان مع عالم الأعيان». الحق والباطل في الأحكام، والصدق والكذب في الأقوال. والواقع في هذه الحالة ليس هو العلم «الإلهي» أو «اللوح المحفوظ» بل الواقع العريض. التجربة الإنسانية من الحياة ومن التاريخ، العلم «الإلهي» هو الوحي الذي تكيف طبقا للواقع كما هو الحال في «الناسخ والمنسوخ»، والذي هو نداء للواقع كما هو الحال في «أسباب النزول».
32
قد يكون اللوح المحفوظ هو قوانين التاريخ، وقد تحققت من قبل أي صدقت في الواقع. العلم البسيط هو المطابقة للواقع، والعلم المركب هو العلم بهذه المطابقة؛ أي العلم بالعلم. ويكون الجهل البسيط هو عدم المطابقة، والجهل المركب هو الجهل بهذه المطابقة. لا يتعلق العلم بالمستحيل؛ فالمستحيل ليس شيئا، أي غير ثابت في نفسه، والعلم علم بالأشياء؛ ومن ثم لا يتعلق العلم إلا بالأشياء الممكنة. والممكن هو الشيء الذي يمكن التحقق من صدقه، فإذا كانت معرفة الله مستحيلة، فإنها تكون خارج موضوع العلم، وإذا كان العلم هو «معرفة المعلوم على ما هو به» يخرج «علم الله» لأنه ليس معرفة، ولا يمكن معرفته «على ما هو عليه»، ولا يمكن ذلك إلا عن طريق التقريب والتشبيه أو طبقا لقياس الغائب على الشاهد أو طبقا لتأويل النصوص، وهي كلها لا تكون نظرية عقلية في العلم. كما يتضمن هذا التعريف نفس الدور السابق وهو أن العلم معرفة ، والمعرفة علم. وهذا يدل على صعوبة تعريف العلم النظري. أما الرؤية المباشرة للواقع، وحدس الماهيات، وإدراك البداهات، وهو طريق المطابقة، فإنه يحدد منهج العلم وليس نظرية العلم؛ مما يدل على أن منهج العلم هو الذي يحدد نظرية العلم كما حدد منهج علم الكلام تعريف علم الكلام. ولا يختلف في ذلك الأشاعرة عن المعتزلة إلا في اتهام المطابقة عند المعتزلة بأنها تجعل العلم شاملا للتقليد؛ لذلك أضاف المعتزلة «المطابقة عن ضرورة أو نظر» مع استبعاد العلم بالمستحيلات أو بوجود الله، وهو اعتراض لا يقوم على أساس؛ لأن العلم لا يكون إلا علما بالممكن وليس بالمستحيل، ولأن «وجود الله» ليس موضوعا للعلم بشخصه، بل بعلمه وهو الوحي، والوحي علم وموضوع للعلم.
33
Unknown page