Min Caqida Ila Thawra Iman
من العقيدة إلى الثورة (٥): الإيمان والعمل - الإمامة
Genres
وقد تكون هناك صلة بين التجسيم كأحد اختيارات التوحيد، والإقرار كأحد اختيارات الإيمان؛ وبالتالي تكون هناك صلة مقابلة بين التنزيه في التوحيد، والعمل في الإيمان. فالتجسيم يجعل الواقع في جسم الله؛ وبالتالي لا يحتاج إلى الدخول فيه بالفعل. (2) هل الإيمان إقرار دون معرفة وتصديق وعمل؟
طبقا لنسق العلاقات بين الإقرار كبعد ثالث للشعور والأبعاد الثلاثة الأخرى، المعرفة والتصديق والعمل، فإن كل العلاقات الثنائية والثلاثية وجدت من قبل في علاقات المعرفة والتصديق؛ فالإقرار دون معرفة هو نفسه المعرفة بلا إقرار، والإقرار دون تصديق هو نفسه التصديق دون إقرار؛ وبالتالي لا تبقى إلا علاقة واحدة، وهي الإقرار دون عمل. وفي العلاقات الثنائية، الإقرار والمعرفة دون التصديق والعمل، هي نفسها التصديق والعمل دون الإقرار والمعرفة، كما أن الإقرار والتصديق دون معرفة وعمل هو نفسه المعرفة والعمل دون الإقرار والتصديق. وفي العلاقات الثلاثية للإقرار في احتمالاتها الثلاثة توجد هي نفسها في العلاقات الثلاثية للمعرفة والتصديق. والعلاقة الرباعية الوحيدة توجد متكررة، سواء كانت البداية المعرفة أو التصديق أو الإقرار.
4 (2-1) هل الإيمان إقرار دون عمل؟
في العلاقات الثنائية هذا هو الاحتمال الوحيد الذي لم يعرض بعد: هل هناك إقرار دون عمل؟ الحقيقة أن القول أحد مظاهر السلوك مثل العمل؛ فالقول سلوك لغوي، والعمل سلوك اجتماعي. ولا يمكن أخذ أحد مظاهر السلوك دون الآخر، كما أن الإقرار ليس له صيغة معينة، بل هو صياغة تدل على مضمون. ليس الإقرار إذن مجرد كلمة، بل هو فعل شعور يتطلب سلوكا هو الإقرار. ولما كانت شرائط الإيمان وأوصافه داخلة في الإقرار، فإن الإيمان لا يكون إقرارا فحسب، بل هو الإقرار بالإضافة إلى شرائط الإيمان وأوصافه. والعمل يأتي في المقدمة، حق الإيمان. ويتضح ذلك في النطق بالشهادتين؛ إذ لا تعني الشهادة مجرد إقرار بالقول، مجرد التلفظ بعبارة، والنطق بقضية، بل تعني فعل «أشهد»، وهو فعل شخصي في ضمير المتكلم المفرد. والشهادة رؤية ووعي وواقع وإعلان. الشهادة تحقق من أمر واقع. الشاهد حامل الحق، ورائي الواقع الذي يؤخذ برأيه في القضاء حين الفصل في الخصومات. الشاهد هو الشاهد على عصره، هو الذي يرى عصره رؤية حق، ويأخذ قضاء العصر بشهادته. وقد تكرر فعل «أشهد» مرتين؛ الأولى في التوحيد، والثانية في الوحي؛ مما يدل على أن أصل التوحيد لا ينفصل عن الكلام؛ أي الفكر المصدق والمحول إلى الفعل. وقد تصل الشهادة القولية إلى حد الشهادة الفعلية عندما يتحول الشاهد إلى شهيد بفعل الشهادة. ولما كان النطق بالشهادتين للقادر المتمكن، فهو فعل يحتاج إلى قدرة، وليس مجرد قول بلا ثمن. وليست القدرة عضوية خالصة، القدرة على تحريك اللسان والشفتين وإخراج هواء الحنجرة من خلال الحبال الصوتية، فهذه قدرة لا يتملكها الأخرس وحده، بل هي قوة معنوية تكشف عن القدرة على الرفض، رفض آلهة العصر وتأليه الطاغوت حتى يتحرر الوجدان البشري، ويكون قادرا بعد ذل على الانتساب إلى مبدأ واحد، عام شامل، يتساوى أمامه البشر جميعا؛ لذلك ضم فعل الإقرار فعلين؛ الأول فعل النفي «لا إله»، والثاني فعل الإثبات «إلا الله»؛ من أجل تحرير الوجدان البشري من الطاغوت، والتعبير عن الهوية المطلقة؛ إذ إن العبارة إذا ما حذفنا النفي والاستثناء كانت «إله الله»؛ أي تعريف الشيء بنفسه، وهوية الذات مع الموضوع، وتطابق المبتدأ مع الخبر؛ لذلك لا يجوز نطق الأطفال والصبية والمجانين بها؛ لأن الإقرار له ثمن، وله حق من العقل والقلب والفعل، في المعرفة والتصديق والعمل. وإذا كانت الشهادة تتطلب الإذعان فإنها تتطلب الفعل؛ فليس الإذعان مجرد خضوع واستسلام، فعل سلبي، بل هو قبول عن رضا، أي فعل إيجابي. وقد يظهر هذا القبول في صورة غضب وتمرد وثورة على الواقع الذي تدحضه الشهادة وينفيه الإقرار. وإذا كانت الشهادة تتطلب الانقياد والامتثال بدليل حروب الردة، فإن ذلك يعني أن للشهادة حقا، حتى في المال مثل حق الزكاة؛ فالشهادة إذن فعل، والإقرار سلوك. وليس أدل على ذلك أيضا من أن الأحكام الشرعية لا تجوز إلا بعد القول، وأن الفرائض لا تتحقق إلا بعد الشهادة؛ فالإقرار التزام بفعل، وليس مجرد قول فارغ لا مضمون له ولا حق فيه. وإذا لم يكن للشهادة صياغة محددة، بل تصح لها أية صياغة، فإن ذلك يدل على أنها مضمون وليست صورة. وإن الإقرار ليس مجرد كلمة، بل هو فعل للشعور، وأنه معنى وتوجه يتطلب سلوكا هو حق الإقرار.
5
وماذا عن الفرائض إن لم تكن أعمالا تضاف إلى الإقرار؟ ألا يقوم الفقه كله على الحكم والتحكيم للأفعال وليس للأقوال؟ وكيف سيحاسب الناس يوم القيامة وعلى أي شيء إن لم تكن على الأعمال؟ وماذا سيغفر الله يوم القيامة إن لم تكن الأعمال؟ وعن ماذا تتم التوبة في الدنيا إن لم تكن على الأعمال؟ الأعمال حقيقة وليست مجازا، أعمال فعلية وليست وهمية. لا تقتصر فقط على الشعائر، بل تضم أيضا الأعمال الصالحة المقرونة دوما بالإيمان. وإذا كان أصل التوحيد يتوجه إلى الإقرار فإن أصل العدل يتوجه إلى الأفعال. إن الإرجاء لا يعني تأخير الفعل على القول، ولا العمل على الإقرار. أليست هذه هي الأخلاق اليهودية أو التطهرية التي تقوم على أن اليهود هم أبناء الله وأحباؤه ما داموا طاهرين، فلا عبرة بالأعمال؟
6
لقد ثبتت السلطة القائمة هذا الاختيار، إما عن نية أو عن سوء نية؛ فإذا كان الاختيار عن حسن نية فإن الهدف يكون هو لم الشمل، وتحقيق الوحدة الوطنية، وعدم التفتيش في ضمائر الناس لمعرفة تصديقهم بما يقرون، أو الدخول في أذهانهم لمعرفة ماذا يعرفون، أو حتى الحكم على أعمالهم؛ فقد بعث الأنبياء والرسل هداة لا قضاة، ويرجئ الحكم على أعمالهم لليوم الآخر. وقد يكون ذلك كرد فعل على تكفير الخصوم واقتتال الفرق، وقطع الرقاب طبقا للأعمال؛ وبالتالي حقنا للدماء وحفاظا على وحدة الأمة أصبح هذا الاختيار إحدى وسائل لتحقيق هذا الهدف. ولكن لما كانت السلطة القائمة هي أيضا تشهر سلاح تكفير الخصوم وتأييد السلطان، فإنها بإخراجها العمل عن الإيمان جعلت أفعال الخصوم سياسية خالصة لا شأن لها بالإيمان؛ وبالتالي تقضي على شرعية المعارضة. وفي الوقت نفسه تخرج أعمال السلطان من الأيمان حتى يظل الحكم شرعيا ما دام السلطان يقر بالشهادتين! وفي الوقت نفسه تجعل السلطة القائمة المنظومة العقائدية أساسا للتكفير مما يمكن لها من حصار المعارضة السياسية التي تتهم بالتأويل؛ وبالتالي الخروج على العقائد السنية الحرفية الشيئية التي تتفق مع أذواق العامة وتصوراتها؛ وبالتالي يمكن عزلها سياسيا في الدنيا، وعزلها دينيا في الآخرة. وذلك ليس فقط للمعارض، ولكن لقومه وشيعته وأنصاره حتى ولو غزا مع المسلمين وشارك في قضاياهم، وكأن المحك في الإيمان والكفر هو الخضوع للسلطان أو المعارضة له.
7
وقد تأخذ بعض فرق المعارضة الشعبية مثل هذا الموقف بدافع المصالحة الوطنية بين السلطة القائمة والمعارضة الجذرية.
Unknown page