Min Caqida Ila Thawra Iman
من العقيدة إلى الثورة (٥): الإيمان والعمل - الإمامة
Genres
وكيف تكون الفرق كلها هالكة مخطئة؟ كيف يمكن إدانة التاريخ كله؟ كيف يكون تاريخ البشرية كله تاريخ ضلال وخطأ وبهتان؟ إن الفرق كلها عمل حضاري، كل منها تعبر بموقفها الإنساني عن الوحي في لحظة تاريخية معينة، وفي وضع إنساني خاص، ولمصلحة اجتماعية لطبقة أو سلطة. وكلها اجتهادات، والاجتهاد ليس خطأ. والاجتهاد المؤدي إلى خطأ هو أيضا اجتهاد صائب لتوافر نية البحث عن الصواب. أليس للمخطئ أجر، وللمصيب أجران؟ والفرقة الناجية واحدة، هي البداية والنهاية. تضم الفرق الأخرى وكأنها قوس حضاري فتح ثم أغلق إلى غير رجعة. دعواها تكرار النصوص وتقنين العقائد حتى تنتهي قصة الضلال، وتعود الإنسانية إلى الهداية، فتلحق بالوحدة الأولى التي فيها بدأت. وهي نظرة صوفية خالصة، العودة إلى عالم الذر وإلى الوعي المطلق تجريدا للنفس وتخليصا لها. فيتم فك الارتباط بين الإنسان والعالم، ويقضى على المعارضة من أساسها، ويتم الاستسلام نهائيا للسلطان. ومع ذلك فالعودة إلى الوحدة الأولى عملية مستحيلة ميئوس منها، لا يمكن تحقيقها من جديد أو اللحاق بها قديما. تبدأ النظرية متفائلة بالدخول إلى الواقع، وتنتهي متشائمة بالخروج على الواقع، وتصبح الأمة كاليهود في عصر الشتات، ويكون ذلك إعلانا ليوم القيامة، وينتهي حتى تفاؤل الأخرويات وقتل المسيح ابن مريم المسيح الدجال.
71
إذا كان التاريخ إملاء من الفكر على التاريخ، وثناء على قمته في الوحدة الأولى التي سارت في خط منحدر دون إمكانية الرجوع إليها بعد أن فسدت العقول، وساءت النيات، وعم التأويل، وضعف الإيمان، وتشعبت المصالح، وسادت الأهواء، وتشتت الجمع، وإذا كان أيضا رفضا لهذا التشتت باعتباره مسارا طبيعيا تنشأ منه الحضارة، وتظهر فيه العلمانية التي هي التطور الطبيعي للظواهر الدينية، حيث يفرض الواقع تشريعاته ويصبح هو المشرع الأول والأخير، إذا كان التاريخ الموجه هو كذلك، فإن الرجوع إلى الوحدة يعبر عن موقف نفسي يكشف عن بنية محددة. فهو عاطفة تطهر وليس تصورا علميا للتاريخ، يأنف من الموقف الإنساني، ومما قد يحرك التاريخ من حيلة وخداع وسوء نية ومصلحة وهوى، ولا يرضى إلا بالعامل الخلقي كمحرك أول وأوحد للتاريخ. كما يكشف عن ثنائية متعارضة بين الكمال والنقص تدل على حرب نفسية داخلية تظهر في التعارض بين الطرفين، وما ينتج عن ذلك من تعصب وحمية، أو نفاق وازدواجية. كما يدل هذا التعارض على نقص في الوعي بالموقف، وعلى عجز في تغيير الواقع. وهو إدانة للواقع كله لدرجة سوء المعاملة والسب، واتهام الواقع كله بالعجز والكفر والعصيان والخروج؛ أي إنه حكم بالكلمة وليس تغييرا بالفعل. وهو ادعاء وإعلان عن الذات أكثر منه رغبة في تغيير الواقع، إعلان الذات عن تمثلها للوحدة الأولى الضائعة من أجل سلطة أو صدارة أو تسلط. وهو عجز عن الدخول في الواقع والعيش معه، والتعرف على بنائه على نحو علمي، وتحليله تحليلا عقليا هادئا. وهو عود على بدء يصيغ قواعد للعقائد
Credo
هي نفسها موضوع الخلاف، عود إلى الصفر، إلى نقطة الخلاف الأولى. والخلاف ضروري لا مهرب منه؛ لأنه عمل العقل في النص. وأخيرا يؤيده فقهاء السلطان باسم الله وبمباركة السلطان، ما دام يجمع الأمة على العودة إلى الماضي تاركين الحاضر لأهله.
ولا يعني نقد التاريخ الموجه أي قضاء على النمطية والمعيارية والأفكار الموجهة، بل يعني توحيد الجهود وإفساح المجال للاجتهاد النظري ضد القطيعة والمذهبية؛ فالاجتهاد الفكري القائم على تحليل الواقع، لا الدفاع عن المصالح الشخصية لأصحاب السلطة، أو لأوضاع طبقية، هو السبيل لتصور تاريخ معياري، وفي الوقت نفسه عريض يجمع الاتجاهات المتعددة، ويعيد إليها وحدتها الفكرية الأولى مستقراة هذه المرة من واقع الأمة ومن وحدتها الوطنية؛ ومن ثم تنتهي الوصاية من الفرقة الناجية على الفرق الضالة، وينتهي تكفير مذهب واحد لباقي المذاهب. فوحدة الفكر لا تعني القضاء على تعدده، وتعدد الفكر لا يعني القضاء على وحدته. وإذا كان تاريخ الفرق هو تاريخ الصراع السياسي، فما أسهل تكفير الحزب الحاكم لأحزاب المعارضة، ثم تكفير أحزاب المعارضة بعضها للبعض حتى يتم القضاء نهائيا على الوحدة الوطنية. ويزداد الأمر صعوبة إذا كان التشتت النظري والعملي مصدره من الخارج نقلا من مذاهب وافدة من حضارات أخرى وبيئات ثقافية مجاورة، حينئذ تكون العودة إلى الوحدة الأولى حركة رافضة لهذا التشتت الوافد من أجل بعث تعددية من داخل الوحدة وليس من خارجها. فوحدة الفكر لا تمنع من تعدد النظر، وتعدد النظر لا يمنع من وحدة العمل. ليس المهم هو صك براءة لنجاة فرقة أو جماعة، أو حتى صدق الفكر الذي تمثله، والعقائد التي تصوغها، إنما نجاة الواقع وتحقيق متطلباته، وفي مقدمتها الاستقلال ضد الاحتلال، والتحرر ضد القهر والتسلط، والمساواة ضد الظلم الاجتماعي، والوحدة ضد التجزئة، والتنمية في مواجهة التخلف، والهوية في مقابل التغريب، وتجنيد الجماهير في مواجهة السلبية واللامبالاة. وكيف تكتب النجاة لجماعة واقعها مثل واقعنا الحالي؟ وماذا تكسب الجماعة لو كتبت لها النجاة والسلامة وهي محتلة مقهورة يأكل فيها الغني أموال الفقير، مجزأة مغتربة متخلفة، ويعيبها الفتور؟ لا تعني الفرقة الناجية جماعة معينة من الناس دون غيرهم، بل تعني التيار الأساسي في الفكر الذي يجمع بين الفكر والواقع، بين الثابت والمتحول، بين القديم والجديد. ولا يعني ذلك أن الوسط ضد الأطراف، بل يعني أنه هو العملية الأكثر علمية في النظر إلى الواقع، والجمع بين كل مكوناته، واستخدام كل طاقاته. ولا تعني الفرق الضالة أنها هالكة خاطئة مدانة، بل قد تكشف عن الوجه الآخر الذي حاولت الفرقة الناجية تغطيته. وإن فكر المعارضة لأكثر دلالة من فكر السلطة؛ فثورة الفكر على العقائد والمؤسسات لها ما يبررها في التاريخ، وأكثر إثراء للفكر وإبقاء على حيويته وخصوبته؛ إذ إنه فكر منتج خلاق مبدع، حتى ولو كان بخلق المقابل والضد. لا توجد فرقة ناجية وأخرى هالكة، بل كل فرقة إنما تعبر عن موقف سياسي، وتتسلح بسلاح العقيدة وتصوغها طبقا لأهدافها. التكفير خروج على الدين والعلم معا. كل نظرية اجتهاد، وكل اجتهاد شرعي، وكل فهم مقبول ما دام مؤيدا بالدليل، ومن قال لأخيه «أنت كفر» فقد باء بها.
72
وإذا كان من الهجوم والدفاع بد فلم تعد المادة الكلامية القديمة وحدها مصدر الخطر إلا بقدر ما ترسب منها في الوعي القومي، ولكن أصبحت أيضا المادة الكلامية الجديدة الواردة من الحضارة الغربية وتترسب في أذهان المثقفين؛ لذلك يقوم علم الكلام في الحركات الإصلاحية الحديثة بمهمتين؛ الأولى تصفية القديم، والثانية الرد على الشبهات الجديدة الواردة من الحضارات المعاصرة.
73 (2-3) الإحصاء العددي
هل يمكن الاعتماد على التاريخ الموجه لإحصاء الفرق؟ وإلى أي حد يتفق هذا الإحصاء الموجه مع الموضوعية التاريخية؟ تتسم الفكرة الموجهة أحيانا بعدم الاطراد؛ فهي مرة تعدد الفرق وتحدد الفرقة الناجية على وجه العموم؛ مما يتيح لكل فرقة اعتبار نفسها الفرقة الناجية، وتصنيف الفرق المعارضة على أنها الفرق الضالة.
Unknown page