Min Caqida Ila Thawra Iman
من العقيدة إلى الثورة (٥): الإيمان والعمل - الإمامة
Genres
16
إن التكفير النظري هو سلاح مشهور باستمرار في مواجهة الخصوم، واعتبار أفكار الذات وتصوراتها هي مقياس أفكار وتصورات الآخرين. ويستحيل توحيد التصورات والآراء والمذاهب، في حين أنه يمكن توحيد الأهداف. وإن أية محاولة للتوحيد النظري إنما تهدف في الحقيقة إلى تواري الأفعال ونسيانها وإخراجها من دائرة الحساب، أو إن شئنا من تحت طائلة العقاب. ولقد اعتبرت الفرقة الناجية نفسها صاحبة المعارف الحقة، وقننتها، ثم حكمت على معارف الآخرين بالكفر. وتم قياس الإيمان طبقا لهذا التقنين في منظومة عقائدية، كما كان الحال في الديانات السابقة؛ وبالتالي ضاعت خصوصية اكتمال الوحي وختم النبوة وكمال العقل وممارسة الحرية.
17
لقد كان التكفير دائما سلاحا ضد الخصوم والمخالفين في الرأي، سواء أكان رأيا نظريا في الاعتقادات أو رأيا عمليا في العمليات، وليس ضد المخالفين في العمل. وخطورة ذلك هو إسقاط العمل من الحساب، وهو العنصر الموحد للأمة، وتوحيد الأمة بعد ذلك بالنظر وتكفير فرقها، وهو ما يستحيل عملا. كما أنه يصعب التعبير عن المعرفة النظرية الخالصة إلا في تصديق أو إقرار أو عمل حتى يقتنع بها الناس. إن خطورة التكفير في الاعتقاديات هي ضياع الوحدة الوطنية، وعدم السماح بالخلاف النظري الخلاق، ثم الاستبداد بالرأي. إن التمايز في العمليات وارد، وهو مقياس التفاضل بين الأفراد والجماعات من حيث السبق والتنافس نحو الخير والعدل.
18
وليس التكفير في النظريات مجرد حكم نظري، بل تنتج عنه مواقف عملية شرعية؛
19
فالتكفير حكم شرعي ينتج عنه مواقف عملية في المجتمع؛ وبالتالي يدخل في الفقه أكثر منه في التوحيد. كما تحيل مسائل الإيمان والكفر والفسوق والعصيان إلى مسائل السياسة؛ إذ إنها أحكام تطلقها الجماعة على الأفراد، سواء كانوا في السلطة أو في المعارضة لتحديد سلوكهم؛ وبالتالي لتحديد أوضاعهم الاجتماعية والسياسية. ويستعمل الرصيد السابق من الأحكام للمقارنة والمشابهة؛ فالقدرية مجوس، والمشبهة يهود، والرافضة نصارى. سلاح الألقاب إذن هو سلاح التكفير؛ فالخصوم معتزلة يعتزلون الجماعة، وبالتالي هامشيون، والثوار خوارج أو رافضة، والمدافعون عن الحق شيعة يتشيعون، أي غير محايدين، أصحاب هوى وأنصار طائفة. أما الفرقة الناجية فهم أهل الحق والاستقامة، أهل السنة والحديث، جمهور الأمة، أصحاب الفتيا والحديث. لا تجوز مناكحة الخصوم أو وراثتهم، وحلال أموالهم، وغنيمة ثرواتهم وكراعهم. دارهم دار حرب ... إلخ؛ وبالتالي تعلن الدولة الحرب على خصومها السياسيين؛ تكفرهم أولا ثم تستأصلهم ثانيا.
20 (2) هل يوجد إيمان نظري بلا تصديق أو إقرار أو عمل؟
إن الإيمان باعتباره معرفة خالصة يبتسر أبعاد الشعور كلها في أحدها، وهو النظر، ويسقط التصديق والإقرار والعمل من الحساب. لا يكفي تحديد الإيمان بالمعرفة وحدها لأن الفكر خاضع للتفسير والتأويل، وقابل للتجديد والتطوير. الفكر وحده صورة بلا مضمون، ومضمون الفكر جزء لا يتجزأ منه، وعلى أساس هذا المضمون يتوجه السلوك. كما أن الفكر منفتح على القول، وقائم على الوجدان، ويتحقق في العمل. يتخارج في الإقرار حيث يتم الإعلان عنه، ويصدقه الوجدان، ثم يتحقق في العالم بالفعل. صحيح أن النظر هو التصور للعالم، وهو أساس الممارسة العملية في العالم من أجل فهمه وتغييره؛ فالنظر بهذا المعنى تصور ونظام، أو كما يقول القدماء عقيدة وشريعة، معنى واتجاه، رأي والتزام؛ وبالتالي فهو لا ينفصل عن الإقرار، وإلا بقي الشعور في حالة من العزلة الفكرية والوجدانية؛ فالكلمة أيضا فعل وكشف وفضح للمستور؛ لذلك أتى الوحي كلاما، وكان الله متكلما، وعالم الكلام متكلم بهذا المعنى مثل الأصولي الفقيه، ولكن النظر أيضا وجدان وتصديق ويقين داخلي. النظر وجدان عاقل، نظر شعوري، تأمل واع؛ فهو في نفس الوقت نظر وباعث. فإذا كان الكفر إنكارا للحقيقة وجحودا بالنعم وسترا وتغطية، يكون الإيمان كشفا واعترافا وبيانا. ولما كان كل موضوع عملية تموضع، فالإيمان ليس موضوعا معطى سلفا يوجد أو لا يوجد، بل هو عملية تموضع تشير إلى كشف الغطاء أو إزاحة الستار طبقا للمعنى الاشتقاقي للكفر من أجل التصديق.
Unknown page