Min Caqida Ila Thawra Iman
من العقيدة إلى الثورة (٥): الإيمان والعمل - الإمامة
Genres
23
ومما يدل على أن التفضيل حكم قيمة أو موقف نفسي خالص أن أهل بدر ليسوا فقط من الإنس، بل أيضا من الجن ومن الملائكة، يحاربون مع المسلمين. وقد تدخل الملائكة الذين شهدوا بدرا في التفضيل، ليس فقط مع باقي الصحابة في هذا التصور التدرجي المقل للفضل، ولكن أيضا مع باقي الملائكة التي لم تشاهد بدرا. وكأن مشاهدة الملائكة لبدر قرار حر تستحق عليه الثواب، وأن بلاءهم بناء على جهد وفيه مخاطرة واستشهاد يستحقون عليه الخلود. وإذا كانت الملائكة قد تدخلت في نصر بدر، فما فضل أهل بدر؟ وإذا كان الله أنزل على الأعداء النعاس والمطر والرعب في قلوبهم، فالمعركة غير متكافئة، فلا المنتصر قد انتصر، ولا المهزوم قد هزم. وإذا كان عدد الإنس في بدر ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا، وعدد الجن والملائكة ثلاثة آلاف، فالنصر يرجع للملائكة وليس لأهل بدر، وقد بلغت الملائكة حدا من القوة تجعلها قادرة على إتمام النصر بأنفسها دونما حاجة إلى بشر يقطفون ثماره، فالملك الواحد يقلع الأرض! ويبدو الخيال الشعبي في تصورهم عددا وعدة وركبا ولباسا وألوانا، فتمثلوا برجال بيض على خيل بلق عمائمهم بيض مرخية على ظهورهم، أو سود أو صفر أو حمر أو خضر، وكأنهم على أنواع مختلفة الألوان، صوف أبيض على نواصي الخيل وأذنابها كدليل على عظمة الركب، ثم جاء جبريل على فرس أحمر، وعليه درعه، ومعه رمحه، كقائد مبارز مبرز. رمى أحد الأعداء بحجر فكسر رباعيته، فلم يولد من نسله إلا أهتم أبجر، وكأن العيب الخلقي متوارث، الأهتم يلد أهتم! ثم دخلت في وجنته حلقتان أخرجهما أحد المؤمنين بأسنانه فسقطت، فكان أحسن الناس هتما. وكأن جبريل وهو بهذه القوة في حاجة إلى من يخرج الحلقتين من وجنته من بشر فان! وهل يصاب جبريل أصلا؟ وإنه ليصاب بحلقتين وهما أكرم من الحجارة، وأكثر زينة للوجنتين. وهل هناك فرق بين هتم من حجارة قبيح وهتم حسن من نزع الأسنان للحلقتين من وجنة جبريل؟ ويدخل الرسول مع الملائكة لإجراء المعجزات مع أنه ليس إلا بشرا، معجزته إعجاز القرآن. وإذا كان الرسول قد تنبأ بمواقع الشهداء على الأرض ومصارعهم، فلماذا لم تحفظهم الملائكة إذا كانت قادرة على الحرب؟ وإذا كان الرسول قد أخذ من الحصى كفا فرمى به المشركين فأصاب أعينهم فانهزموا، فما الحاجة إلى الملائكة أو الجن أو الإنس؟ وإذا كان الرسول قادرا على أن يقلب العرجون سيفا، ورد الشق إلى الوجه، ورد العين المفقودة، فالأولى كان حمايتها منذ البداية.
وذلك كله صور فنية تدل على الإيمان بالنصر لتقوية العزيمة ورفع الروح المعنوية، مثل تثبيت رمل الأرض كصورة للثبات تحت الأقدام، وأن اطلاعه على المستقبل ليعطي ثقة لجنده، ويساعدهم على الثبات في النزال والشدة في القتال والإيمان بالنصر في الحرب. وإذا كان ذلك حقيقة، فلماذا لم يأت للمسلمين في معاركهم وهزائمهم الأخيرة مدد من السماء كما أتى للأوائل؟ وأين كانت الملائكة في أحد؟ إن الأمر كله رغبة وتمن وثقة بالنصر. ومما يؤيد ذلك أيضا ظهور بعض المصطلحات الصوفية، مثل مقام الخوف الذي كان فيه النبي، ومقام الرجاء الذي كان فيه الصديق، نظرا لسيادة التصوف على العقائد الأشعرية المتأخرة.
24
وقد يحدث اختزال لهذه الدرجات الخمس للفضل من الأربعة إلى العشرة إلى البدريين إلى الأحديين إلى الرضوانيين إلى درجتين فقط، المهاجرين والأنصار، أو الأولين من المهاجرين والأولين من الأنصار دون حكم فردي على إنسان بأنه أفضل من إنسان آخر في طبقته، وكلاهما مشهود له بالإيمان دون الكفر، سواء قاتل في الفتنة مع هذا الفريق أو ذاك أم قعد عنها ولم يشارك فيها واعتزل الناس. وقد يزداد تفضيل المراتب ليس فقط إلى درجتين، بل إلى سبع عشرة درجة طبقا للسبق إلى الإسلام بالإضافة إلى الجهاد فيه. ويظهر فضل الأفراد من خلال فضل الطبقات. ويصنف الأفراد طبقا للذكورة أو الأنوثة، للبلوغ أو للقرابة أو للقرشية أو القبلية. ولما صعب تحديد ذلك تاريخيا على وجه الدقة فقد وقع الاختلاف فيه. وبالنسبة للجهاد في الإسلام يصنف المجاهدون في القتال مثل أول من قتل كافرا. وكل سابق إلى الإسلام أسلم على يديه آخرون يأتون في الطبقة الثانية ويأتي أبناؤهم في درجة ثالثة. ثم يأتي الأنصار في مجموعات، وعلى فترات؛ الهجرة الأولى مع الرسول، والثانية حتى الوقعة الأولى، والثالثة حتى الخندق والحديبية، والرابعة حتى فتح مكة. وتزيد المعارك من اثنتين، بدر وأحد، إلى ثلاثة بإضافة الخندق. ثم يأتي المسلمون الذين دخلوا في يوم الفتح، ثم الذين دخلوا أفواجا والباب مفتوح على مصراعيه. ثم يأتي الصبية الذين أدركوا الرسول، ثم الصبية الذين حملوا إليه في حجة الوداع.
25
والحقيقة أن مقياس الأسبقية إلى الإسلام يحكمه عارض تاريخي بقدر ما تحكمه الإرادة الحرة. ويشمل العارض التاريخي الميلاد والوجود في الزمان والمكان والقبيلة والصدفة التي لا دخل للإرادة الحرة فيها. كما أن الأسبقية قد تتعارض أحيانا مع الاستحقاق؛ فقد يكون لأخوين السبق نفسه، ولكن يبايع أحدهما الإمام الجائر بينما يستشهد الآخر في قتاله.
26 (2-4) هل هناك تفضيل بين القرون؟
ويبدأ السقوط التدريجي في الانهيار نحو مزيد من الانحدار، وذلك بالانتقال من الصحابة الذين شاهدوا الرسول إلى التابعين الذين شاهدوا الصحابة، إلى تابعي التابعين الذين شاهدوا التابعين. وهي ثلاثة أجيال متتابعة. الجيل الأول، وهو جيل الصحابة، يتلوه جيلان آخران، جيل التابعين وجيل تابعي التابعين. وعندما تسقط الإمامة من العقائد المتأخرة، يدخل الموضوع كملحق للنبوة. وقد يمثل اعتبار الصحابة بهذا المعنى ورثة النبوة بالرغم من الانحدار التدريجي بعد الغرور باعتبارهم ورثة الأنبياء، خاصة وأن لا أحد منهم يكفر نفسه أو يخطئها. ويمثل كل جيل قرنا، فيكون خير القرون قرن الرسول، ثم القرن الذي يليه. وإذا كان القرن مائة عام، فإن الصحابة والتابعين في القرن الأول، وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ابتداء من القرن الثاني. فكل قرن يضم جيلين لو كان نضج الإنسان يتم وهو فيما بين الأربعين والخمسين. وسمي القرن قرنا لأنه يقرن أمة بأمة، ويواصل جيلا بجيل؛ فتتابع القرون إنما يعني تتابع الأجيال وتواصلها بالرغم من علاقة التدهور والانحدار ومسار السقوط جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن. ولا يشترط تساوي الأجيال في الزمان؛ فإذا كان طول الصحبة شرط الصحابي مع النبي، فإنه لا يكون بالضرورة شرط التابعي مع الصحابي؛ لذلك اختلفت القرون في الطول، أطولها قرن الصحابي الذي يزيد على مائة عام، وأوسطها قرن التابعي الذي يبلغ السبعين عاما، وأقصرها قرن التابعي الذي يبلغ الخمسين عاما. وكلما توالت القرون قلت المدة لرسوخ العلم واحتواء الرواية وسهولة جمعها وتدوينها جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن. وبلغة العصر، كلما توالت الأجيال كلما ازدادت سرعة الاتصال ونقل المعلومات، وقلت المدة وانتشر الخبر.
27
Unknown page