وأنت تستطيع أن تجد هذا كله في الفصول التي كتبها منصور حين رحل إلى بلاد اليونان سنة 1923 ووقف على الأكروبوليس متأثرا بوقفة رينان.
1
على أن هناك فرقا عظيما جدا بين رينان ومنصور حين وقف في الأكروبوليس، فقد كان رينان أديبا وفيلسوفا ومؤرخا. أما منصور فكان أديبا وفيلسوفا ليس غير. وكم كنت أحب أن يقرأ شيئا من تاريخ اليونان قبل أن يذهب إلى أتينا، فهناك فصل أسفت له أشد الأسف، ولو استشارني منصور لأشرت عليه بحذفه؛ لا لضعف في معناه أو لفظه فهو قوي المعنى جيد اللفظ،
2
ولكن لبعده عن الحق، ولأنه أراد أن ينصف آلهة المصريين القدماء فظلم آلهة اليونان ظلما شديدا. عنوان هذا الفصل هو «وقفة بالحصن المقدس: العرق دساس». أراد منصور أن يتقرب إلى آلهة الحسن في أتينا، وما أشك في أنه أراد الإلهة أتينا نفسها، وإن كانت عنايتها بالحسن أقل مما ظن منصور بكثير . إنما أفروديت هي التي تعنى بالحسن، ومع ذلك فالصورة التي تخيلها منصور من الحسن ليرضي الإلهة اليونانية بعيدة كل البعد عما يرضي آلهة اليونان، قريبة كل القرب إلى ما يرضي الغانيات في القاهرة أو باريس. فقد أراد منصور أن يتجمل بأحسن ثيابه، ويرجل شعره ويصلح من شاربيه، ويتعطر بأحسن الطيب، ويضع في صدره زهرة غضة ويرسل عليه سلسلة ذهبية، ويضع في أصبعه خاتما يتألق، ثم ذهب يشتري عصا، وبينما التاجر يعرض عليه أظرف ما عنده من العصي رأى عصا تمتاز بالمتانة والصلابة والشدة فآثرها؛ لأنه ذكر المصريين وآلهتهم وأنهم كانوا يمتازون بالقوة والمتانة، فانصرف إليهم وانحرف عن الآلهة اليونانية معتذرا إليها، لأنه من قوم كانوا يؤثرون القوة، ولم ينس منصور إلا شيئا واحدا ولكنه عظيم الخطر جدا، وهو أن الإلهة أتينا كانت إلهة الحكمة من ناحية وإلهة الحرب من ناحية أخرى، وأنها خرجت من رأس أبيها كأقوى ما تكون سلاحا واستعدادا للحرب، وأظن أن إلهة الحكمة والحرب لا تنقصها المتانة والقوة، ذلك إلى أن إلهة الحسن نفسها وهي أفروديت كانت عند اليونان قوية شديدة البأس، دافعت عن طروادة فأحسنت الدفاع وكادت تنتصر. فأنت ترى أن جمال هذه الفصل قد ذهب لأن كاتبه لم يكن مؤرخا حين كتبه.
ولأعد إلى ما كنت فيه من وصف العاطفة الدينية في خطرات منصور، فقد قلت إنها قوية حادة، وأن فيها من الديانات المختلفة والمذاهب الفلسفية ما يذكر برينان، ويكفي أن تنظر إلى هذا الفصل الذي يشبه فيه الجمال بالله وبالقوة الخفية؛ لأنه يعرف بآثاره دون أن تدرك حقيقته، لتحس من قوة هذه العاطفة وسعتها ما يثبت صحة ما أقول.
ولروسو تأثير آخر في خطرات منصور كاد يجعله كاتبا بارعا من الوجهة اللفظية لولا أنه لم يدرس اللغة العربية درسا عميقا، ذلك أن روسو قد بث في نفس منصور قوة غريبة تكرهه على أن يظهر ما يشعر به قويا كما يشعر به؛ أي في قوة وعنف، فيحمله ذلك على أن يخترع صورا من التعبير ليست مألوفة، وكانت خليقة أن تبقى وتؤرخ عصرا من عصور اللغة لو استقامت لصاحبها طرق التعبير، ولو أنه تأنى وتمهل ولم يخرجها عجلان مسرعا.
وأنت تجد صورة قوية من هذا في الفصل الذي كتبه يودع به العام، فيأخذ يفكر ويستعرض الحوادث وينتظر آخر لحظة في السنة، حتى إذا أخذت الساعة تدق خيل إليه أن كل دقة من دقاتها تحصي أثرا من آثار العام، فأعلن بهذه الصورة الغريبة الطريفة التي كادت تكون بديعة لولا أنه تعجل ولم تستقم له اللغة، فأصبحت صورة مضحكة، أو داعية إلى الابتسام. وأنا أنقلها لك لترى صحة ما أقول:
تن ... سخرت من الغافلين حتى صحوا من الشدة والمحن ...
تن ... أغريت الإنسان بالذهب الوهاج فتهافت على ناره كما يتهافت على النور الفراش ...
Unknown page