القسم الرابع: بين العلم والدين
1
الناس معنيون في هذه الأيام عندنا بالخصومة بين العلم والدين. وقد بدأت عنايتهم بهذه الخصومة تشتد منذ السنة الماضية، حين ظهر كتاب «الإسلام وأصول والحكم»، فنهض له رجال الدين ينكرونه ويكفرون صاحبه، ويستعدون عليه السلطان السياسي. وزادت هذه العناية شدة حين ظهر في هذه السنة كتاب «في الشعر الجاهلي»، فنهض له رجال الدين أيضا ينكرونه، ويكفرون صاحبه، ويستعدون عليه السلطان السياسي.
والحق أن هذه الخصومة بين العلم والدين - كما قلت في غير هذا الموضع - قديمة يرجع عهدها إلى أول الحياة العقلية الفلسفية. والحق أيضا أن هذه الخصومة بين العلم والدين ستظل قوية متصلة ما قام العلم وما قام الدين؛ لأن الخلاف بينهما - كما سترى - أساسي جوهري، لا سبيل إلى إزالته ولا إلى تخفيفه إلا إذا استطاع كل واحد منهما أن ينسى صاحبه نسيانا تاما، ويعرض عنه إعراضا مطلقا. وقد نعرض بعد قليل لهذا الموضوع في شيء من التفصيل والإسهاب. ولكن الذي نحب أن نلاحظه منذ الآن هو أن التفكير في هذه الخصومة بين العلم والدين قد حمل بعض المفكرين على أن يلتمسوا لها أسبابا قريبة أو بعيدة، وعلى أن يسألوا أنفسهم أليس إلى إزالتها من سبيل؟ وقد نشأ عن هذا التفكير نوع من الفلسفة قيم، كثرت فيه الكتب والمباحث. ولسنا نريد أن نعرض له إلا من ناحية واحدة وهي الناحية التي تتصل بالسياسة وتحملها على أن تنتصر للعلم مرة وللدين مرة أخرى، وعلى أن تعتز حينا بهذا وحينا بذاك. وإذا عرضنا لهذا الموضوع فلسنا نريد إلا شيئا واحدا هو تحقيق التوازن بين هذه المؤثرات الثلاثة في حياة الأفراد والجماعات، وهي العلم والسياسة والدين.
الحق أن الخصومة لم تكد تنشأ بين العلم والدين، أو بين العقل والدين، حتى دخلت فيها السياسة فأفسدتها وانصرفت بها عن وجهها المعقول إلى وجه آخر، لم يخل من الإثم بل من الإجرام.
أول خصومة ظاهرة بين العقل والدين هي هذه التي نشأت في آخر القرن الخامس قبل المسيح، حين أخذ سقراط يطوف في شوارع أتينا ومعه حواره وفلسفته، يقف بهما حينا عند هذا الحذاء، وحينا آخر عند الحمام، ومرة في أحد الميادين العامة، ومرة أخرى في نادي الألعاب الرياضية، ويدعو إليه الشبان والكهول والشيوخ أحيانا فيحاورهم في الحق والعدل والواجب والقصد، وما إلى ذلك من هذه المسائل التي كانت تشغل الشعب الأتيني في ذلك الوقت.
لم يكن سقراط يتخذ عداوة الدين مذهبا، ولا الخروج عليه غاية لفلسفته أو حواره، بل نستطيع أن نقول إنه كان من أشد معاصريه محافظة واعتدالا، فهو إنما كان يخاصم السوفسطائية، ويريد أن يهدم مذاهبهم في الشك، وأن يرد إلى العقل سلطانه، ويبين أن حقائق الأشياء ثابتة، ولكنه كان يحاور على طريقة السوفسطائية، وكان يتخذ الشك سبيلا إلى اليقين، ولم يكن يكره أن يضع كل شيء موضع البحث، وأن يعرض كل شيء للشك حينا وللإنكار حينا آخر، فلم يسلم الدين ولا غيره مما كانت تحتفظ به الجماعة الأتينية من خطر هذا الشك والإنكار. ولم يسلم الدين من خطر هذا الشك ، ولم يسلم منه النظام السياسي الأتيني أيضا، فقد كان سقراط يحاور في كل شيء، ويعرض - كما قلنا - كل شيء للشك والإنكار. وكان الشعب الأتيني في آخر القرن الخامس قبل المسيح حريصا مسرفا في الحرص على نظامه الديمقراطي الذي ائتمر به الأرستقراطيون غير مرة، فعرضوه للخطر وأزالوه حينا ما. فلم يكن من الغريب أن يكره الشعب الأتيني كل فلسفة تمس هذا النظام الديمقراطي، أو تعرضه للشك، أو لتصرف عنه الشباب قليلا أو كثيرا. ولم تكن الديمقراطية الأتينية قد وصلت إلى ما وصلت إليه بعض الديمقراطيات الحديثة من الفصل بين الدولة والدين، وإنما كانت تقيم السياسة على الدين وترى الدين أصلا من أصول وجودها، أساسا من أسس حياتها، وفصلا من فصول نظامها السياسي. فكانت فلسفة سقراط أمام الديمقراطية الأتينية آثمة من وجهين: آثمة لأنها تعرض النظام نفسه للخطر، وآثمة لأنها تعرض الدين للخطر. ومن هنا لم يكد خصوم سقراط يقفونه موقف القضاء من الشعب حتى تظهر تدخل السياسة في الخصومة بين العقل والدين، وكان موقف سقراط من قضاته أثناء الدفاع وبعد الحكم محنقا، يثير السخط ويدعو إلى القسوة. فقسا القضاة وأثمت السياسة حين قضت بالموت على أبي الفلسفة.
ومن ذلك الوقت أصبحت الخصومة بين العقل والدين، أو قل بين العلم والدين، أمرا لا مندوحة عنه: يخاف الدين كل فلسفة وكل علم، ويرتاب العلم بكل دين. ومن ذلك الوقت تحدد موقف السياسة بين هذين الخصمين، وظهر أنه لن يكون موقف إصلاح بينهما، وإنما هو موقف إفساد وإحراج وإثارة للحفيظة والحقد.
لم يقف سخط السياسة الأتينية على الفلسفة عند القضاء على سقراط وإنفاذها هذا القضاء فيه، وإنما تجاوزه إلى اضطهاد تلاميذه والشك فيهم، فتفرقوا في الأرض، واستخفت الفلسفة من أتينا حينا. فلما عادت إليها وسعتها، ولكن مع شيء كثير جدا من التحفظ والارتياب، فما اطمأنت الديمقراطية الأتينية يوما إلى أفلاطون، ولا رضيت على أرسطاليس، والناس جميعا يعلمون أن المعلم الأول كاد يقف من القضاء موقف سقراط لولا أن هرب من أتينا.
2
Unknown page