هلموا أيها السادة العلماء، طالبوا بأن تدرس اللغات الإسلامية في جامعتكم الإسلامية درسا مفصلا نافعا، فإنكم إن لم تفعلوا أضعتم على الأزهر حقه في أن يكون الجامعة الإسلامية الكبرى.
وليس ينبغي أن تكون مدرسة اللغات الشرقية في باريس أنفع من الأزهر الشريف.
أليست المطالبة بهذا والإلحاح فيه أوفق بعلماء الدين وأجدى عليهم وعلى الدين من مطالبة من كان يطالب بأن تكون المعاهد الدينية فوق الدستور؟
أما مساء الخميس فقد كان لذيذا؛ لأنا قضينا شطرا منه نستمتع بلذة الموسيقى، وقضينا الشطر الآخر في بيت وزير المعارف.
اجتمعنا الساعة الثانية في كنيسة أثرية كبرى في بروكسل هي كنيسة «سانت جودول»، وكنا قد دعينا إلى هذا الاجتماع لا للصلاة ولا للتقديس، ولكن للدرس والتاريخ في لذة ومنفعة. هنا خطبنا قسيس، فلم يتحدث إلينا في دين المسيح، ولم يفسر لنا إصحاحا من الإنجيل أو آية من التوراة، وإنما تحدث إلينا في الفن، وتحدث إلينا في الآثار، ذلك أن هذه الكنيسة قديمة بعيدة العهد بالتاريخ، بدئ في إنشائها في القرن الثاني عشر، واختلفت عليها أطوار الفن والعمارة من آخر القرن السابع عشر. فخطبنا هذا القسيس ساعة وبعض ساعة مبينا لنا هذه الأطوار المختلفة التي مرت بها الكنيسة، مقارنا بين هذه الكنيسة وبين ما يشبهها من كنائس فرنسا وألمانيا من الوجهة الفنية الخالصة، مناقشا آراء بعض الفنيين والأثريين من الألمان والفرنسيين؛ لأن هذه الكنيسة لا تزال تشغل الباحثين إلى اليوم وإلى الغد. أعترف بأني لم أكن أفهم شيئا كثيرا من خطبة القسيس؛ لأني لست أثريا ولا فنيا، ولا أكاد أتصور فن العمارة، ولكني مع هذا كنت أعجب بهذا القسيس إعجابا شديدا لا يعدله إلا إعجابي بقسيس آخر خطبنا في المؤتمر خطبة ليس بينها وبين الدين صلة؛ لأنها كانت تتناول نسخة قديمة يختلف العلماء في تحديد العصر الذي نسخت فيه، فيرى بعضهم أنها نسخت في القرن العاشر وبعضهم قبل ذلك وبعضهم بعد ذلك، ويحكم القسيس بين هؤلاء العلماء المختلفين. كنت إذن أعجب بهذين القسيسين، ولعل مصدر إعجابي بهما لا يخفى على السادة العلماء.
وأنا أعتذر إلى السادة العلماء، فلست أريد أن أغضبهم، وما أبغي بهذا الحديث إلا الخير لهم ولنا؛ ذلك لأن علماءنا لا يستبدون بملك أنفسهم فلنا عليهم بعض الحقوق؛ لأننا نريد أن يكون علماء الدين فينا أئمة وفخرا في وقت واحد، ويؤلمني جدا أن أقارن بينهم وبين رجال الدين في أوروبا؛ لأن هذه المقارنة لا تسرهم ولا ترضيهم كما أنها لا تسرنا ولا ترضينا، وكما أنها تدل على أن الفرق عظيم جدا بين علماء الدين اليوم وبينهم منذ قرون.
هذا قسيس قد درس دينه فأتقنه وهو يؤدي واجبه الديني، وأؤكد لك أن الواجب الديني الذي يؤديه القسيس أشق وأعسر وأشد استغراقا للوقت من الواجب الديني الذي يؤديه العالم المسلم؛ لأن الإسلام دين هين لين سهل لا كلفة فيه ولا تعقيد، وحسبك أن صلاة المسلم تستغرق دقائق، وأن صلاة القسيس المسيحي لا تقاس بالدقائق، وحسبك أن العالم الديني عندنا إذا صلى وأدى واجباته الدينية الشخصية، وألقى درسه أو درسيه فهو حر، وأن القسيس ليس له من الحرية مثل هذا المقدار العظيم، ومع ذلك فالقسيسون في أوروبا لا يكتفون بدرس الدين وأداء واجباتهم الدينية، وإنما كثير منهم رجال دين ورجال علم، وكثير منهم رجال دين ورجال فن، وكثير منهم يستطيع أن يناهض العلماء والفنيين الذين اختصوا بالعلم والفن فينهضهم ويتفوق عليهم.
وهذان القسيسان اللذان ذكرتهما قد اختص أحدهما بفن العمارة واختص الآخر بعلم من علوم التاريخ، وأؤكد لك أن لجنة من لجان المؤتمر لم تكن تخلو من قسيس، وأن اللجنة التي كنت فيها كان يرأسها قسيس، وأنه أظهر عناية شديدة بصبح الأعشى، وما يشتمل عليه صبح الأعشى، وأؤكد لك شيئا آخر، وهو أن الفلاسفة إذا ائتمروا فيشترك معهم القسيسون، وأن علماء الكيمياء إذا ائتمروا فسيشترك معهم القسيسون، وقل مثل ذلك في الأطباء وقل مثل ذلك في علماء الحياة، وقل مثل ذلك في علماء الرياضة، وما لي أذهب بعيدا وفي مصر مدارس اليسوعيين ومدارس الفرير، وفي فرنسا جامعات تقوم على رجال الدين، ويدرس فيها أبناء الأرستقراطية المحافظة، فإذا تقدموا إلى الامتحانات العامة في الجامعات الحكومية لم يكونوا أقل نجاحا من غيرهم، وربما كانوا أكثر منهم فوزا.
فأحب الآن أن تحدثني عن علمائنا في مصر، مع من يستطيعون أن يأتمروا؟ أمع المؤرخين وهم يجهلون جهلا تاما تاريخ أوروبا وأمريكا، بل تاريخ الشرق، بل تاريخ اليونان والرومان، وأستحيي أن أذكر تاريخ الإسلام؟ أمع الجغرافيين أم مع الرياضيين أم مع علماء الحياة؟ سينعقد في مصر مؤتمر جغرافي بعد سنتين، فهل يشترك فيه علماء الدين؟ ذلك لأني لقيت في بروكسل أسقفا فرنسيا سألني عن جمعيتنا الجغرافية الملكية، وعلمت منه أن سيشترك في مؤتمرنا الجغرافي ، وثق بأنه لن يكون الوحيد من رجال الدين المسيحي في هذا المؤتمر.
أليس يحسن ... أليس يجب على علماء الإسلام في مصر أن يبذلوا ما يملكون من جهد وقوة ليكونوا كغيرهم من رجال الدين، ليكون منهم المؤرخ والجغرافي وعالم الكيمياء وعالم الطبيعة والفلكي (وإنما أريد الفلكي الحديث كما أريد إذا ذكرت المشتغل بالطبيعة من لا يكتفي بدرسها في إشارات ابن سينا)؟
Unknown page