أقول: لو عنيت الدول بهذا القرار الذي اتخذه العلماء لاستفادت مصر فائدة عظيمة جدا، فنحن نعلم أن من حقنا أن نطالب تركيا وإنجلترا بمحفوظات كثيرة نقلت إلى قسطنطينية وإلى لندرة في عصور وظروف مختلفة، ولعلك تعلم أن من يريد أن يدرس التاريخ السياسي الدولي لمصر في القرن التاسع عشر مضطر إلى أن يذهب إلى لندرة، ويراجع محفوظات كثيرة في وزارة الخارجية الإنجليزية، وهناك أشياء نجهلها وقد نعلمها في يوم من الأيام حين نعنى بمحفوظاتنا السياسية والإدارية عناية علمية، ولعلك تعلم أن من يريد أن يدرس التاريخ السياسي والعلمي والأدبي لمصر أيام المماليك مضطر إلى أن يختلف إلى مكاتب القسطنطينية، وأن دار الكتب المصرية أوفدت منذ حين سماحة السيد محمد الببلاوي؛ ليستنسخ في مكاتب القسطنطينية كتبا عربية كثيرة. ولعلك لم تنس أن الترك حين فتحوا مصر حملوا إلى قسطنطينية كنوزها العلمية والأدبية والفنية. فمن هذه الكنوز ما تبدد، ومنها ما لا يزال محفوظا في القسطنطينية، ومن الحق أن يعود هذا كله إلى مصر، ولكن أتظن أن قرارا يتخذه العلماء يستطيع أن يؤثر في رجال السياسة سواء أكانوا من الإنجليز أم من الترك؟
ثم كانت الساعة الثالثة بعد الظهر، فافتتح المؤتمر رسميا. اكتظت غرفة الاحتفالات في قصر المجامع العلمية بأعضاء المؤتمر، وأقبل الملك والملكة والأمراء فافتتح المؤتمر، وقدم رئيسه التحية إلى الملك والملكة كما ذكرت في الفصل الماضي، وهنا لا أستطيع أن أخفي ابتهاجي حين سمعت لفظ مصر يذكر في كلمة التحية.
فقد كنت ثاني اثنين مصريين حضرا المؤتمر، وكان الآخر جورج أفندي قطاوي، العضو بالبعثة السياسية المصرية في باريس. كان يمثل الجمعية الجغرافية الملكية، وكنت المصري الوحيد الذي يلبس الطربوش، ولم أكن أعلم بحضور مواطني في هذه الجلسة، فكنت أشعر بالغربة حقا. فلما سمعت لفظ مصر يذكر في تحية الملكة، بمناسبة زيارتها الأخيرة، أحسست شيئا من الابتهاج والحنان، ولعلي لا أغلو إذا قلت إني أحسست شيئا من الكبرياء أيضا.
لم أخفي عليك الحق؟ كنت قبل هذه السياحة في بلجيكا مقتصدا كل الاقتصاد في الافتخار بمصريتي إذا تحدثت إلى الأجانب أو جمعتني وإياهم المجامع؛ ذلك لأني أشعر دائما بما نحن فيه من ضعف ونقص قبل أن أشعر بما كان لنا من مجد وبما يدخر لنا الزمان من رقي. أستحضر دائما ضعفنا ونقصنا الاجتماعيين، كما أستحضر دائما ضعفي ونقصي الشخصيين. فأتواضع في الحديث وأقتصد في الفخر، ولست أدري أمزية هذه أم نقيصة، ولكني أعلم أن هذا خلق من أخلاقي.
أما الآن وقد زرت بلجيكا، وتحدثت إلى هؤلاء الناس المختلفين، وسمعت ما ذكرت وما تذكر به مصر، وعرفت رأي كثير من هؤلاء الناس في مصر. فقد أشعر بأن من حقي أو من الحق علي ألا أسرف في التواضع وألا أغلو في الاقتصاد إذا ذكرت مصر وذكر المصريون؛ ذلك أن رأي الأجانب في مصر حسن جدا، ولا سيما إذا كان هؤلاء الأجانب بعيدين عن السياسة وأوزارها ... نعم، رأي الأجانب في مصر حسن؛ لأنهم يفهمون مصر خيرا مما نفهمها، يقدرون مجدها القديم؛ لأنهم يفهمونه حقا، ويقدرون مركزها الحديث؛ لأنهم لا يتعصبون لمذهب سياسي، ولا يميلون مع الهوى إلى حزب من الأحزاب.
يجب أن أعترف بالحق لأهله، يجب أن أثني على ثروت باشا، وعلى تصريح 28 فبراير، وعلى إعلان الاستقلال في 15 مارس؛ فالناس في مصر يزدرون هذا كله، ويسخرون منه، ويرون أنا غير مستقلين. وقد يكون من الحق أنا غير مستقلين بالفعل، وأنا لن نستقل بالفعل إلا يوم يجلو الإنجليز، ولكن من الحق أيضا أن الأجانب الذين لا يشتغلون بالسياسة والذين يشتغلون بها ينظرون إلى مصر كما ينظرون إلى إنجلترا؛ أي إنهم يعترفون بأن مصر مستقلة كما أن إنجلترا مستقلة وكما أن بولونيا مستقلة، وهم يعجبون بمصر قديمها وحديثها. يعجبون بقديمها؛ لأنه خليق بالإعجاب، ويعجبون بحديثها؛ لأنه يدهشهم ويملك عليهم أهواءهم، ولقد سمعت أكثر من عشرين أجنبيا منهم البلجيكي والفرنسي والبولوني والأمريكي يذكرون مصر الحديثة فيعجبون بها؛ لأنها تتطور في سرعة مدهشة، ولأن نهضتها الحديثة فذة في التاريخ.
سمعت اسم مصر إذن فابتهجت، وامتلأ قلبي حنانا، وشعرت بشيء من الكبرياء؛ لأني كنت أو لأن طربوشي كان رمزا لمصر بين هذه الرءوس الحاسرة التي كانت تزيد على الألف.
ولكني بعدت عن المؤتمر وغلوت في الاستطراد، وبماذا تريد أن أحدثك عن هذه الجلسة الرسمية، التي هي كغيرها من الجلسات الرسمية: ثناء على الملك والملكة، وتحية من الحكومة البلجيكية للمؤتمر. ثم خطبة مطولة من رئيس المؤتمر ألم فيها ببحث تاريخي قد أذكره في غير هذا الفصل، ثم تلاوة قرارات اتخذت لحسن نظام الأعمال، ثم ينصرف الأعضاء. اتصلت هذه الجلسة ساعتين، وسمع الملك والملكة والأمراء كل ما قيل، وانصرفوا مع الناس دون أن يظهر عليهم ملل أو ضجر. أكانوا حقا مغتبطين بهذا الحدث الطويل الكثير الثقيل على آذان الملوك؟ أم كانوا مجاملين؟
باريس في 18 أبريل سنة 1923
4
Unknown page