وقال (أبو الحسين): العلم بأنا المحدثون لأفعالنا ضروري لا مجال للشك فيه؛ لأن العقلاء يعلمون بعقولهم حسن الأمر بها والنهي عنها والترغيب والترهيب والمدح والذم، ويعللون ذلك بكونه فعله، وكل ذلك فرع على أنهم محدثون لها، ومحال أن يعلم الفرع ضرورة والأصل استدلالا، يوضحه أنهم يطلبون الفاعل طلب المضطر إلى أنه يفعل، ويجد الطالب من نفسه العلم بأن المطلوب الذي يحدث فعله، ولذلك يتلطف لاستدعاء الفعل منه، ويعظه، ويزجره، ويعده ويتوعده بحسب الحال، ويتعجب من فعله وييستظرفه، ويعجب العقلاء منه، ويعلل ذلك بكونه فعله، ونجد من أنفسنا الفرق الضروري بين أمرنا بالقيام والقعود، وبين أمرنا بإيجاد السماء والكواكب، فلولا أن العلم الضروري حاصل بأنا الموجدون لأفعالنا لما صح ذلك.
قال (أبو الحسين): والمجبرة يعلمون ذلك، ولكن جحده علماؤهم ميلا إلى الهوى وتعصبا للأسلاف، وطلبا للرئاسة، وتقربا إلى السلطان، وليست شبههم أكثر ولا أدق من شبه السوفسطائة، ولم يدل ذلك على أنهم غير جاحدين للضرورة على أنه يمكن صرف خلاف الجميع إلى أنهم علموا ولم يعلموا أنهم علموا، فإنه لا يمتنع أن تطرأ شبهة في العلم بالعلم لا في العلم نفسه، يزيده وضوحا أنك إذا حكيت مذهبهم هذا لعوامهم الذين لا يعرفون كيفية أقوالهم لأنكروه، ولنزهوهم عن هذه المقالة، بل تجد علماءهم معتزلة في المعاملات، فلا يذمون إلا من ظلمهم، ولا يحمدون إلا من أحسن إليهم، حتى لو رميت أحدهم بحجر فشجه لذمك ولم يذم الحجر، ولوثب إليك وثبة مضطر إلى أنك الذي جرحته، ولو أخذت عليه دانقا لما سهل فيه، ولخصك من بين الناس بطلبه.
وبالجملة فلو جمعت المجبرة في صعيد واحد ثم رأوا رجلا يقتل آخر، أو يأخذ ماله لشهدوا أنه قاتله ولما خالجتهم شبهة في ذلك ، ولو كان الحق ما ذهبوا إليه لكانت شهادتهم بذلك زائرة.
Page 180