قيل: نحن نقطع بعدم كثير من الممكنات كقطعنا بأنه ليس بحضرتنا فيل أو نحوه، وقد تقدم أنه يجب القطع بنفي ما لا دليل عليه، ولو جوزنا حصول هذا العلم أو نحوه مما لا دليل عليه لصح ما يدعيه السوفسطائية من عدم العلم ونحوه، على أن الباقلاني قد أبطل دعوى العادة بأنه يجوز خرق العادة فيجوز إخلاء المعجز عن الصدق، وحينئذ يجوز إظهاره على يد الكاذب.
فإن قيل: لو سلم ما ذكرتم من منع ظهور المعجز على يد الكاذب، وسلم أن العادة لا توجب امتناعه، فلا نسلم أن امتناعه للقبح العقلي بحيث أنه لو انتفى القبح العقلي انتفى الامتناع لجواز أن يمتنع لدليل آخر، إذ لا يلزم من انتفاء دليل معين وهو القبح العقلي مثلا انتفاء العلم بالمدلول، وهو امتناع الثقة بخبر الله تعالى، والعلم بصدق النبي.
قيل: أما نحن فقد كفانا هذا الدليل، وأما أنتم فأنتم باقون على تجويز الكذب وعدم الوثوق بالشريعة، ولا ينفعكم إلا وجود الدليل لا جوازه، وإنما هذه مغالطة وتلبيس لا يليق مثلها من المتصدين لتمهيد قواعد الشريعة، وكأن المقصود الجدل، وما يدفع عنكم إفحام الخصم وهذه كتبكم لا يوجد فيها إلا تداول هذه العبارات، والأعذار الباردة التي لا اعتماد عليها، ولو كان هذا الدليل موجودا لكان قد اطلع عليه ولو فرد واحد منكم فالله المستعان، فرحم الله من جعل نظره في العلوم نظرا مطابقا لمراد الله، قاصدا به خلاص نفسه من ظلمات الجهل وأسر التقليد.
فإن قالوا: الدليل هو العادة فقد عرفناك بطلانه، وإن قالوا: بل هو كونه صادقا لذاته لأنه متكلم لذاته، فهو مبني على كون كلامه تعالى قديم وهو واضح البطلان، وسيأتي الكلام عليه في موضعه إن شاء الله تعالى، مع أنه يلزمهم أن يكون الله تعالى كاذبا لذاته إذ لا فرق عندهم بين الصدق والكذب بالنظر إليه تعالى، وحينئذ يبقى التجويز على أصله، ولا يدفعه إلا إثبات القبح العقلي، وهو المطلوب والحمد لله.
Page 132