الموضع الثالث: في ذكر حجج العدلية وما يرد عليها ورده وذكر
شيء مما اختلفوا فيه
ولهم على ذلك حجج قاطعة، وبراهين ساطعة:
أحدها: تصويب العقلاء من المسلمين والكفار من مدح المحسن أو أحسن إليه، أو ذم المسئ أو عاقبه بلا فرق بين المتراخي وغيره، وليس هذا التصويب إلا لمعرفتهم حسن المدح والثواب للمحسن، والذم والعقاب للمسيء، وحسن الفعل المسبب لذلك أو قبحه، وأنه متعلقه بلا فرق بين تعجيل مدحه والإحسان إليه، أو ذمه وعقابه وتأخيرها، ولو كان بينهما فرق لأنكروا على فاعلها بعد مضي مدة طويلة أو قصيرة، فإن قيل: لا نسلم أن ذلك لما ذكرتم، بل نقول إنما ذلك لتأديب الشرع، لكن لما استمر الناس عليها التبست بالقضايا العقلية.
قيل: لو كان ذلك كذلك لما اشترك فيه جميع العقلاء من الموحدين والملحدين واليهود والنصارى والمجوس وغيرهم.
قال الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام : (وكل مكلف من موحد أو ملحد يستحسن فعل الحسن، ويحب أن يذكر به، ويستقبح القبيح ويكره أن يذكر به، ألا ترى أن الملحد لو رأى صبيا يريد أن يتردى في بئر أو في نار أو يمد يده ليلزم حية أنه يمنعه من ذلك ويستحسن منعه، ويستقبح تركه وإن لم يكن له برحم).
وقال السيد مانكديم: (فإن قيل: ما أنكرتم أنه إنما يفعله رجاء للثواب، أو طلبا للمدح، أو هربا من الذم، قيل له: إنا نفرض الكلام في رجل قاسي القلب جاشي الفؤاد لا يبالي بهلاك الثقلين، ولا يحتفل بالذم والمدح، ملحد زنديق لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ولا يقر بالثواب والعقاب، ومعلوم أنه والحال هذه يستحسن بكمال عقله إرشاد الضال، وأن يقول للأعمى والحال ما ذكرناه يمنة أو يسرة، ولا وجه لذلك إلا حسنه، ولكونه إحسانا).
Page 123