المقدمة نحمد الله تعالى على كماله حمد الموجود موجده، ونشكره على عطائه شكر المخلوق خالقه، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى أولي الدراية والنهى وعلى أوصيائهم مصابيح الدجى ولا سيما على خاتمهم محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله) وعلى آله أئمة الديانة والهدى.
وبعد، فإن أول ما يلاحظ الناظر إلى مؤلفات فقهاء الطائفة الإمامية ومصنفات جهابذتها في فقه الشريعة الإسلامية وأصولها هو الدور المهم والبارز الذي مارسه هؤلاء المحققون في حفظ الدين وأحكامه من الدس والتضليل وصيانته من التحريف والتبديل.
فببركة جهودهم المتواصلة ومساعيهم الحثيثة في تفريع الفروع واستنباطها من الأصول ظل هذا الدين الحنيف حيا في نفوس الناس إلى يومنا هذا ومنتشرا في كافة البقاع والأمصار، وهذا هو الذي صار سببا رئيسيا في ظهور مسائل جديدة واستحداث وقائع حديثة تستلزم معرفة نظر الشارع المقدس فيها.
ومن هؤلاء الأفذاذ العلامة أبو منصور الحسن بن يوسف الحلي الذي حاز على قصب السبق في هذا المضمار، وبذل الجهد في هذا الحقل، فطفق بتصنيف كتابه " قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام " حيث جمع فيه أبواب الفقه كاملة ليصير بالتالي سفرا جليلا لما اتسم فيه من غزارة مادته ودقته العلمية اللتين كانتا السبب الأول في تظافر العلماء على الخوض فيه بالشرح تارة والتعليق عليه أخرى، حتى عد صاحب الذريعة ما يقارب الثلاثين شرحا وخمس عشرة حاشية عليه. PageV0MP003
وهذا الكتاب - الماثل بين يديك أيها القارئ والذي سطرته يراعة الفقيه المحقق والعالم المدقق السيد محمد جواد العاملي (1226 ه) - من أشهر هذه الشروح وأنفعها، وذلك لأن المؤلف (رحمه الله) إنما أعده للاستيفاء الشامل لأقوال الفقهاء، المتقدمين منهم والمتأخرين، ولمواقع إجماعاتهم وموارد الاشتهارات المدونة في بطون مصنفاتهم، حتى أضحى مصدرا من مصادر فقه الشريعة الإسلامية، وإحدى الموسوعات الفقهية الضخمة للطائفة الإمامية المحقة.
وقد عرف مصنف هذه الموسوعة بغزارة الاطلاع وسعة الباع والضبط والإتقان وخبرته الطويلة في مجالي الفقه والأصول حتى قال صاحب " روضات الجنات " في ضمن ذكر ترجمة المحقق القمي (1231 ه): إنه كان يرجع في مسائل الفقه عند شكه في وجود خلاف في مسألة ما إلى سيدنا الفقيه المتتبع السيد جواد العاملي صاحب " مفتاح الكرامة " أيام إقامته عنده ونزوله عليه في قم المباركة. (أعيان الشيعة: 4 / 289).
فنظرا لأهمية هذه الموسوعة الفقهية ومكانتها البارزة، ولعدم وجود طبعة لها محققة وموثقة، أزمعت مؤسستنا على تحقيقها وطبعها بالحلة المناسبة لها، فعهدت بمهمة التحقيق والإشراف على مراحل العمل فيه إلى الحجة المحقق الشيخ محمد باقر الخالصي حفظه الله، فانبرى لهذه المسؤولية بهمة وإخلاص، فبذل قصارى جهده في متابعة مراحل تحقيق هذه الموسوعة، مضافا إلى ما دبجته يراعتاه حول شخصية المصنف ومقامه بين العلماء والمحققين، فشكر الله سعيه وجعله ذخرا له في الآخرة.
ولا يفوتنا أن نتقدم بجزيل الشكر لجميع الإخوة العاملين الذين ساهموا في إنجاز هذا المشروع المبارك، سائلين الله سبحانه لهم ولنا دوام الخير والتوفيق إنه بعباده خير رفيق.
مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة PageV0MP004
نبذة من حياة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل لنا طلاقة النطق باللسان وأعاننا عليه بتعلم الكتابة وقدرة البيان ثم شرفنا بشرافة الإخلاص ونعمة الإيمان.
والصلاة الدائمة المتواصلة على أنبيائه الذين بلغوا عنه إلى عباده رسالاته وأدوا عنه إليهم أماناته ولا سيما على خاتمهم وسيدهم من الأولين إلى الآخرين محمد وعلى آله المعصومين أئمة عباده وأمنائهم على بلاده.
وبعد إن هذا الكتاب الماثل بين يديكم أيها القراء الأفاضل هو مفتاح الكرامة في فقه الإمامية، كتبها أحد أعلام الشريعة وأعاظم فقهاء الشيعة الذي عاش بين القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر وهو السيد محمد جواد العاملي (رحمه الله). فلا بد لنا من أن نعرف أولا مؤلفه الفاضل حسب ما ظفرنا عليه من حياته الطيبة وثانيا هذا الكتاب المتفرد في فنه لمطالعيه وناظريه أهل العلم والتحقيق المراجعين إليه في طي تفحصهم في الفقه الجعفري.
نسبه الشريف:
أما اسم مؤلفه فهو - على ما أنسبه إليه المحقق الفقيه السيد محسن الأمين العاملي (رحمه الله)، الذي هو من البيت وأهل البيت أدرى بما في البيت - محمد جواد بن محمد بن محمد بن أحمد بن قاسم بن علي بن علاء الدين بن علي الأعرج ابن إبراهيم بن محمد بن علي بن مظفر بن محمد بن علي بن حمزة بن الحسين بن محمد بن عبد الله بن عيسى بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن
Page 1
علي بن أبي طالب (عليهم السلام). وقد يصف نفسه في بعض مصنفاته بالحسيني الحسني الموسوي، وكان وجه انتسابه نفسه إلى الحسن المجتبى وموسى الكاظم (عليهما السلام) من جهة أمهاته أو جداته.
فالرجل ينتهي إلى النجيب الشريف الثائر المتعهد المحامي عن شرف العترة الطاهرة، زيد بن علي بن الحسين ثم إلى الأئمة زين العابدين وأبي عبد الله الحسين وأمير المؤمنين وفاطمة سيدة النساء عليهم أفضل الصلاة وأحسن السلام، فنسبه أشرف الأنساب وعروقه أعرق الأعراق وصلبه أصلب الأصلاب.
وأما مولده فهو ولد (رحمه الله) في قرية " شقراء " من قرى جبل عامل بلبنان.
وأما سنة ولادته فلم يضبطه أحد على التحقيق والتعيين إلا أن الأمين العاملي (رحمه الله) أثبتها في حدود المائة ونيف وخمسين بعد الألف.
مسيره في تحصيله وأساتيذه من ابتدائه إلى انتهائه:
والظاهر أن أوائل ابتدائه في تحصيل العلوم كان في جبل عامل، فشرع في مقدمات العلوم الإسلامية الدخيلة في التفقه في هذا المكان. ثم بعد استكماله تلك المقدمات سافر إلى العراق، فأقام في إحدى الحوزتين المعروفتين الدائرتين في ذلك الزمان وهي كربلاء المقدسة بعد النجف الأشرف فاستوطنها وذلك لأن بلدة كربلاء في ذلك الزمان صارت حوزة علمية عالية للمريدين وقطبا دائرا لتحصيل العلوم الإسلامية للمتعلمين ولا سيما في الفقه الجعفري وأصوله الاعتقادية والفقهية.
وكان قطب رحا حوزة كربلاء المقدسة ومحور تحقيقها وتدريسها حينئذ هو الفقيه الأمجد والأصولي الأوحد أستاذ فقهاء عصره المحقق المدقق آية الله وحجة الاسلام آقا محمد باقر الشهير بالوحيد البهبهاني (رحمه الله) وبعده في الشهرة والعظمة ابن أخته الفقيه الأصولي آية الله السيد علي الطباطبائي صاحب رياض المسائل.
ومعاصر هذين الأستاذين المحققين في تلك البلدة الطيبة المستقر في طرف ضدهما من حيث المبنى والمسلك الفقيه العالم المحقق آية الله الشيخ يوسف البحراني صاحب كتاب الحدائق الناضرة وهؤلاء الأعلام وغيرهم كانوا مصابيح العلم في تلك البلدة المقدسة وآية تحقيقها في تلك الكلية الفقهية وكان طلبة العلم
Page 2
والفقه يشدون الرحال من جميع نواحي البلاد الإسلامية إلى تلك الحوزة وإلى حوزة النجف الأشرف.
فلأجل ذلك قصدها أي كربلاء المقدسة المترجم له بعد أن اشتغل بمقدمات العلوم مدة غير يسيرة في جبل عامل لبنان، فهاجرها قاصدا من ذلك اكتساب العلوم وتحصيل الحقائق فاستوطنها إلى أن مات أستاذه الوحيد البهبهاني (رحمه الله).
ويظهر مما ذكره بعض الأعلام أنه بعد وروده تلك البلدة الطيبة والحوزة المباركة حضر جلسة مذاكرة السيد الفقيه السيد علي الطباطبائي ولذا حكى عن بعض مصنفاته وإجازاته أنه قال: إنه - أي صاحب الرياض - أول من علمني ورباني وقربني وأدناني، ولذا يعبر عنه كثيرا ما في كتابه هذا ب " شيخنا " أو " أستاذنا " وهذا الكلام المحكي عنه بظاهره يشعر بأن صاحب الرياض أول أساتيذه ومعلميه وأنه لم يتعلم قبله من أحد، إلا أن ذلك بعيد جدا، فإن صاحب الرياض كان - إذ هبط الشارح ذلك المهبط - من الفقهاء المجتهدين ومن مدرسي خارج الفقه والأصول ومثله لا يكون مدرسا لمقدمات العلوم ومبادئها التي يتكفل تعليمها أوساط الطلبة ومن يتردد في بادئ الرأي من المعلمين.
ثم بعد أن حضر مجلس بحث الطباطبائي برهة من الزمن حضر حوزة أستاذه الوحيد البهبهاني (رحمه الله) وقيل: إنه كان ملازما لدرسيهما معا في زمان واحد مشغولا بذلك عن الخروج من كربلاء حتى لزيارة النجف الأشرف وهو (رحمه الله) دائما يعبر عن أستاذه هذا ب " أستاذنا الآقا أو الأستاذ أدام الله حراسته ". وهو (رحمه الله) قد عنى في هذا الكتاب بنقل كلام هذا الأستاذ أكثر من عنايته بنقل كلام سائر أساتذته.
ثم بعد أن ارتحل الوحيد البهبهاني إلى رحمة الله تعالى هاجر سيدنا المترجم له إلى النجف الأشرف الحوزة الأم لجميع الحوزات العلمية للشيعة الإمامية فحضر حلقة درس العلامة العابد والحجة المجاهد والفقيه الزاهد صاحب الملكات القدسية والنفس الزكية السيد مهدي الطباطبائي المعروف ب " بحر العلوم " وحلقة بحث الشيخ الأكبر أفقه المتأخرين المحقق المدقق الشيخ جعفر صاحب كتاب كشف الغطاء الذي اشتهر لأجل تأليف هذا الكتاب العظيم في فنه المتقن في بيانه المبتكر في كثير من آرائه ب " كاشف الغطاء " وحلقة بحث الشيخ الفقيه المتعبد
Page 3
الشيخ حسين نجف.
ولكنه على ما يقال: لم يزل كان ملازما لجلسة بحث العلامة الطباطبائي إلى أن ارتحل الطباطبائي إلى رحمة الله ورضوانه وبقي ملازما لحوزة درس الشيخ جعفر مدة مديدة إلى أن سافر الشيخ المشار إليه إلى إيران لأجل تبليغ الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك لأن هذا الشيخ كان مهتما شديد الاهتمام بهذا القانون ويحسب أن العمل بهذا القانون الإلهي من وظائفه الخاصة المعينة عليه، لأنه كان يرى نفسه مستعدا لهذا الأمر أكثر من أن يرى غيره مستعدا لذلك. فاستقل المترجم له بالتدريس والتحقيق بعد سفر أستاذه ولم يحضر حلقة درس هذا الشيخ الأكبر بعد رجوعه من بلاد إيران أيضا.
فالرجل - على ما عرفت - ولد وترعرع في بيت السيادة والشرافة ونشأ وتربى في منبت العلم ومهد العلماء الأفاضل والفقهاء الأماجد فعليه لا غرو ولا عجب من ارتقائه بعد برهة غير طويلة إلى أعلى مدارج الكمال، وهو الفقاهة حسب ما بينه الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) بحيث صار مشارا بالبنان ومرجعا لحل معضلات الفقه ورفع مشكلات علوم الدين حتى أقر بفضله مثل هؤلاء الأبطال في ميدان التحقيق والأساتذة النادرة في مقام التدقيق.
قال أستاذه المحقق البهبهاني في إجازته التي كتبها له على ما حكي: استجاز مني العالم العامل والفاضل المحقق المدقق الماهر العارف ذو الذهن النقاد والطبع الوقاد مولانا السيد السند السيد محمد جواد حرسه الله تعالى وأبقاه ووفقه لما يحبه ويرضاه فأجزت له، إلى آخر ما كتب له بخطه.
وقال المحقق القمي صاحب القوانين في إجازته التي كتبها بخط يده على مجلد الفرائض من مفتاح الكرامة حينما زار أئمة العراق وأقام مدة يسيرة في الغري: أما بعد فقد استجازني الأخ في الله السيد العالم العامل الفاضل الكامل المتتبع المطلع على الأقوال والأفكار الناقد المضطلع بمعرفة الأخبار والآثار السيد جواد العاملي مؤلف هذا الكتاب فاستخرت الله وأجزت له أدام الله أفضاله وكثر في الفرقة الناجية أمثاله، إلى آخر ما كتب له بخطه.
وحكي عن بعض أهل الورع أنه قال: مما تحققناه من أحواله على حد التواتر
Page 4
أنه كان مشهورا بين علماء عصره من زمن حضوره على أستاذه الوحيد البهبهاني إلى يوم وفاته بالضبط والاتقان وصفاء الذات وأن أجلاء العلماء - سواء من مشايخه المتقدم ذكرهم أو من غيرهم - كانوا إذا أشكلت عليهم مسألة أرادوا تدريسها أو تصنيفها أو الإفتاء بها ووجدوا الأساطين مضطربين في كلماتهم والأخبار متعارضة متخالفة في مداليلها أو مسانيدها، سألوه عما حققه هو في تلك المسألة فإن لم يكن له تحقيق فيها التمسوا منه كتابتها وتحقيقها فيقفون عند قوله وتحقيقه، لعلمهم بغزارة اطلاعه وجودة انتقاده وشدة ممارسته لكلمات العلماء وعرفانه بمحط أنظار الفقهاء ومأخذ براهينهم واستدلالاتهم ولخبرته بعلم الرجال.
وقد قيل: إن تأليف جل كتبه أو كلها إنما كان بالتماس أسطوانة من هذه الأساطين أو أستاذ من هؤلاء الأساتذة. وهذا أمر يظهر بالنظر في ديباجة كتبه المشار إليها. وهذا يدل على علو شأنه وانفراده في عصره بما لا يشاركه فيه غيره من علماء زمانه.
قال صاحب روضات الجنات: كان من فضلاء الأواخر ومتتبعي فقهائهم الأكابر وقد أذعن بكثرة اطلاعه وسعة باعه في الفقهيات أكثر معاصرينا الذين أدركوا فيض صحبته بحيث نقل إن الميرزا أبا القاسم صاحب القوانين كان إذا أراد في مسألة تشخيص المخالف والمؤالف يرجع إليه فيظفر به.
وقال في ترجمة صاحب القوانين: إنه كان يرجع في مسائل الفقه عند شكه في وجود مخالف في المسألة إلى سيدنا الفقيه المتتبع السيد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة أيام إقامته عنده ونزوله عليه في قم المباركة.
ولأجل هذه الشهرة الحسنة والاعتبار المقبول المشهور ولأجل هذه السابقة المضيئة كان معظما مبجلا عند العلماء كافة.
نقل: أن أستاذه بحر العلوم اعتزل التدريس أياما فاشتد الأمر على تلامذته وعزموا على أن يشفعوا لديه وجها مقربا ورسولا معتبرا فلم يروا في العلماء من يكون لديه أقرب ولا أوجه من صاحب الترجمة فأرسلوه إلى السيد تشفعا فلما رآه السيد الطباطبائي استبشر به وجعل يعتذر من اعتزاله عن الدرس بأن ذلك
Page 5