ميكروميغاس
ممنون أو الحكمة البشرية
الزوجة المخلصة
سزوستريس
ميكروميغاس
ممنون أو الحكمة البشرية
الزوجة المخلصة
سزوستريس
ميكروميغاس وثلاث قصص
ميكروميغاس وثلاث قصص
تأليف
فولتير
ترجمة
إلياس أبو شبكة
ميكروميغاس
(1) رحلة أحد سكان عالم الشعرى إلى كوكب زحل
في أحد الكواكب السيارة التي تدور حول النجمة المطلق عليها اسم الشعرى اليمانية، كان فتى متوقد الذهن تشرفت بالتعرف إليه في الرحلة الأخيرة التي قام بها في هذا العالم الصغير، ويدعى هذا الفتى ميكروميغاس، وهو اسم يوافق كل كبير، يبلغ طول ميكروميغاس ثمانية فراسخ، وأعني بثمانية فراسخ أربعة وعشرين ألف خطوة هندسية، كل منها خمس أقدام.
سيسرع بعض العارفين بالجبر، وهم دائما من محبي الفائدة، إلى تناول القلم، فيتبين لهم أنه إذا كان السيد ميكروميغاس القاطن بلد الشعرى اليمانية يبلغ من قمة رأسه إلى باطن قدميه أربعة وعشرين ألف خطوة، يساوي مجموعها مائة وعشرين ألف قدم، وكنا نحن مواطني الأرض لا يتجاوز طول الواحد منا خمس أقدام، وكان قطر الكرة الأرضية تسعة آلاف فرسخ؛ فيجب - حتما - أن تبلغ دائرة الكرة التي أنبتت ميكروميغاس واحدا وعشرين مليونا وستمائة ألف مرة أكثر من محيط أرضنا الصغيرة، وليس في الطبيعة أبسط من هذا، ولا أكثر شيوعا؛ فولايات بعض ملوك ألمانيا وإيطاليا، هذه الولايات التي يمكن لفها بمدة نصف ساعة، إذا قيست بدولة تركيا أو المسكب أو الصين، لا تأتي بسوى صورة ضئيلة عن الفروق الهائلة التي وضعتها الطبيعة في جميع الخلائق.
ولن يشقى جميع من عندنا من النحاتين والمصورين في الموافقة على أنه إذا كان طول فخامته كما ذكرت، فمن المعقول ألا يقل زناره عن خمسين ألف قدم.
أما عقله فمن أخصب ما يتوفر لإنسان؛ فهو يعي أشياء لا تعد ولا تحصى، وقد اخترع بعضا من هذه الأشياء؛ إذ حزر - بقوة ذكائه - أكثر من خمسين مسألة من مسائل إقليدس، وهو بعد طالب في أشهر معاهد الشعرى، غير متجاوز مائتين وخمسين سنة من عمره، ولما بلغ المائة الرابعة بعد الخمسين سنة؛ أي لما اجتاز عتبة الحداثة، شرح كثيرا من تلك الحشرات الصغيرة، التي لا يبلغ قطرها مائة قدم، ولا ترى بالميكروسكوبات العادية، وألف عنها كتابا - على جانب كبير من الغرابة - أورثه بعض مشاحنات؛ فقد وجد فيه شيخ بلده، وهو عجوز طاعن في السن وبالغ من الجهل أبعد حدوده، قضايا تدعو إلى الشبهة، وتسيء إلى الآداب العامة، وتفوح منها رائحة الكفر والإلحاد؛ فأمر بملاحقته. وكان مدار البحث في الكتاب براغيث الشعرى اليمانية، وهل تتفق طبيعتها وطبيعة الحلزون؛ فدافع ميكروميغاس عن نفسه بظرف وذكاء، آخذا النساء من جهته، وبقيت الدعوى مائتين وعشرين سنة، وأسفرت عن فوز الشيخ بمساعدة بعض الفقهاء الذين لم يقرءوا الكتاب؛ فحكم على المؤلف وعلى صاحبه بالنفي ثمانية قرون من البلاط الملكي.
على أن ميكروميغاس لم يحزن كثيرا لطرده من بلاط ملأته الصغائر والأكاذيب؛ فنظم أغنية تهكم بها على الشيخ، ولم يعبأ بها هذا الأخير، وشرع يتنقل من كوكب إلى كوكب كالطائر من غصن إلى غصن، فعبر المجرة بوقت قصير، وانتهى به السير إلى كرة زحل. وهو وإن يكن ألف رؤية الأشياء الجديدة، إلا أنه حين وقع نظره على صغارة تلك الكرة وسكانها لم يقو على ضبط نفسه من ابتسامة التفوق التي تفلت أحيانا من أعقل الناس؛ ذلك أن زحل ليس أضخم من الأرض بسوى تسعمائة مرة، ومواطنو هذا البلد أقزام، لا يبلغ علو الواحد منهم إلا ستة آلاف قدم.
سخر منهم بادئ ذي بدء، كما يسخر موسيقي طلياني من موسيقى لولي حين يأتي إلى فرنسا، ولكنه رجع في الحال إلى رشده، وتذكر أن العقل لا يقاس بمقياس الطول والعرض، وأن قزمة لا يتجاوز طوله ستة آلاف قدم قد يكون على جانب من الذكاء؛ فسعى إلى التقرب من الزحليين، بعد أن أدهشتهم جثته الهائلة، حتى توصل إلى كاتم أسرار المجمع العلمي الزحلي، وهو رجل واسع الإدراك، لم يخترع شيئا، ولكنه يعطي آراء صائبة في مخترعات الآخرين، ويحسن بعض الإحسان نظم مقاطع قصيرة من الشعر، وحل مسائل حسابية عويصة؛ فأنس به وارتبط معه بعرى صداقة متينة. وإلى القراء حديثا عجيبا دار يوما بين ميكروميغاس وحضرة كاتم الأسرار! (2) حديث بين قاطن الشعرى وقاطن زحل
بعد أن تمدد فخامته واقترب كاتم الأسرار من وجهه قال ميكروميغاس: لا بد لنا من الاعتراف بأن الطبيعة كثيرة التنوع. فقال الزحلي: أجل، إن الطبيعة أشبه ما تكون بروضة أزهارها ... فقاطعه الآخر بقوله: دع روضتك لا تتكلم عنها. فاستطرد كاتم الأسرار قائلا: هي كمجلس نساء بيض وسمر زينتهن ... فقاطعه الآخر بقوله: ما لي ولنسائك السمر! إذن هي كرواق صور رسومها ... فقاطعه الرحالة بقوله: لا، بل الطبيعة، هي كالطبيعة؛ فلماذا نبحث لها عن تشابيه؟ فأجاب كاتم الأسرار: لأسرك. فقال الرحالة: لا أريد أن أسر، بل أريد أن أتعلم، قل لي أولا كم حاسة لرجال كرتك؟ فأجاب الزحلي: لنا اثنتان وسبعون، وكل يوم نتذمر من هذه القلة؛ فتصورنا يذهب إلى أبعد من حاجاتنا، ونرى أن حواسنا الاثنتين والسبعين، وحلقتنا وأقمارنا الخمسة تجعلنا في حيز ضيق، وأننا - بالرغم من فضولنا كله، ومن مشتهياتنا الكثيرة الناتجة عن حواسنا الاثنتين والسبعين - لا يزال لنا متسع كاف للسأم والملل. فقال ميكروميغاس: ليس في ذلك أي ريب عندي؛ فنحن لنا في كرتنا ما يقرب من ألف حاسة، ولا يزال فينا لا أعرف أية رغبة مبهمة، بل أي قلق، ينبهنا دائما إلى صغارتنا، وإلى أن ثمة خلائق أكمل منا بكثير، لقد سافرت قليلا، فرأيت مائتين دوننا بكثير، ومائتين فوقنا بكثير، ولكني لم أر منهم أحدا لا ينطوي من المشتهيات على أكثر مما ينطوي من الاحتياجات الصحيحة، ومن الاحتياجات على أكثر من إرضاء الخواطر، وقد أصل يوما إلى البلد الذي لا يعوزه شيء، ولكن حتى الآن لم يجئني أحد بأنباء راهنة عن هذا البلد.
وبعد أن أفرغا ما في جعبتيهما من الافتراضات والأدلة، عادا إلى الأمور الواقعة، فقال ميكروميغاس: كم تعيشون؟ فأجاب القزمة الزحلي: وقتا قصيرا جدا. فقال الرحالة: عندكم كما عندنا؛ فنحن نتذمر دائما من القليل، ولا شك في أنه ناموس كوني من نواميس الطبيعة. فقال الزحلي متحسرا: نحن لا نعيش إلا خمسمائة دوران كبير من الشمس؛ (أي خمسة عشر ألف سنة، على طريقتنا الحسابية)، ألا ترى أننا لا نكاد نولد حتى نموت؟ فحياتنا نقطة، وموتنا لحظة، وكرتنا ذرة، لا نوشك أن نهم بمعرفة شيء قليل حتى يدركنا الموت قبل الاختبار، لا أكتمك أني لا أجرؤ على القيام بأي مشروع؛ فإني أرى نفسي كنقطة ماء في بحر خضم، وإني لأخجل، أمامك على الخصوص، بالوجه المضحك الذي أظهره في هذا العالم.
فأجابه ميكروميغاس: لو لم تكن فيلسوفا لخشيت أن أحزنك حين أقول لك إن حياتنا أطول من حياتكم بسبعمائة مرة، ولكنك تعرف حق المعرفة أنه حين يعود الجسد إلى أصوله ليحيي الطبيعة في شكل آخر؛ أي حين يجيء الموت، لا يبقى أي فرق بين أن نكون قد عشنا أبدية أو عشنا يوما، لقد زرت بلدانا يعيش سكانها حياة أطول بألف مرة من الحياة التي نعيشها نحن، ومع هذا رأيتهم يتذمرون، ولكن في كل مكان أناسا أولي أحكام سليمة يحسنون تناول قسمتهم وحمد مبدع الطبيعة؛ فقد وزع على هذا الكون فيضا من المتنوعات في انسجام عجيب، خذ مثلا جميع الخلائق المفكرة؛ فهي تختلف في الشكل، ولكنها في باطن الأمر تتشابه بموهبة الفكر والرغائب، إن المادة منتشرة في كل مكان، ولكن لها في كل كرة خصائص متنوعة، فكم من هذه الخصائص المتنوعة تحصي في مادتك؟
فأجاب الزحلي: إذا كنت تتكلم عن تلك الخصائص التي نعتقد أن هذه الكرة لا تقوى بدونها على البقاء كما هي، فلدينا منها ثلاثمائة؛ كالمدى، وعدم قابلية النفوذ، والحركة، والثقل، وقابلية التجزؤ، وغير ذلك.
فقال الرحالة: هذا العدد الصغير يكفي في الظاهر وجهات نظر الخالق في موطنكم الصغير، إني لأعجب بحكمته في كل شيء؛ ففي كل مكان أرى فروقا، ولكني أرى أيضا تناسبا في كل مكان، فكرتك صغيرة وسكانها أيضا، وإن تكن أحاسيسكم قليلة فليست خصائص مادتكم كثيرة، وكل هذا عمل الحكمة العلياء، من أي لون شمسكم؟
فأجاب الزحلي: من الأبيض المائل إلى الاصفرار الشديد، وحين نجزئ أحد أشعتها نجد فيه سبعة ألوان.
فقال ميكروميغاس: أما شمسنا نحن فتضرب إلى اللون الأحمر، وعندنا تسعة وثلاثون لونا أصليا، وليس بين جميع الشموس التي عرفتها شمس تشبه الأخرى، كما أنه ليس عندكم وجه لا يختلف عن سائر الوجوه.
وبعد جملة أسئلة من هذا النوع، استخبر عن عدد الجواهر المختلفة في زحل، فعلم أنه ليس فيه إلا ثلاثون منها كالله، والمدى، والمادة، والخلائق المديدة التي تحس وتفكر، والخلائق المفكرة التي لا امتداد لها، والخلائق التي يكمن النفوذ إليها، والتي لا يمكن النفوذ إليها، وغيرها. وكان في الشعرى من هذه الجواهر المختلفة ثلاثمائة عدا الثلاثة الآلاف الأخرى التي اكتشفها ميكروميغاس في أسفاره، فأحدث في الفيلسوف الزحلي دهشة عظيمة. وفي نهاية الأمر، بعد أن تبادلا قليلا مما يعرفان، وكثيرا مما لا يعرفان، وبقيا مدة دوران شمسي - أي ثلاثين سنة - يقرعان البرهان بالبرهان، والدليل بالدليل، صح عزمهما على القيام برحلة فلسفية قصيرة. (3) رحلة قاطني الشعرى وزحل
كان الفيلسوفان على أهبة النزول في جو زحل، مزودين بعدة وافية من الآلات الرياضية حين جاءت عشيقة الزحلي، وقد بلغها الأمر، دامعة المقلتين كئيبة القلب توبخه على سوء تصرفه، وهي فتاة جميلة سمراء، لا تبلغ من الطول إلا ثلاثة آلاف وتسعمائة وستين قدما، ولكنها تعوض عن قصر قامتها بكثير من الفتن والجواذب.
قالت معولة: آه يا ظالم! أبعد أن قاومت حبك خمس عشرة مائة سنة، وحين بدأت أستسلم إليك، ولما تنقض مائة سنة على ارتمائي بين ذراعيك، تتركني لتسافر مع مارد من عالم آخر؟! رح؛ فلست سوى فضولي، ولم يطرق الحب قلبك أبدا، ولو أنك زحلي صحيح لكنت وفيا، إلى أين تريد الذهاب؟ وماذا تريد؟ إن أقمارنا الخمسة لأقل دورانا منك، وحلقتنا أقل منك تقلبا، لقد آليت على نفسي ألا أحب بعد اليوم أحدا. فطوقها الفيلسوف بذراعيه، ولم يمنعه مقامه كفيلسوف من البكاء معها، وبعد أن أغمي عليها ذهبت تعزي نفسها بين ذراعي أستاذ آخر.
وفي غضون ذلك ذهب الفيلسوفان، فقفزا أولا على الحلقة فوجداها مسطحة، كما حزر أحد مشاهير قاطني كرتنا الصغيرة، ومن الحلقة ذهبا من قمر إلى قمر، ومر مذنب بالقرب من القمر الأخير فوثبا عليه مع الخدم والآلات، حتى إذا قطعا نحوا من مائة وخمسين مليون فرسخ، صادفا المشتري، فمكثا فيه عاما اطلعا خلاله على أسرار عجيبة كانت - ولا ريب - تحت الطبع، لولا قلم المراقبة الذي وجد فيها بعض قضايا صارمة.
وما إن خرجا من المشتري، واجتازا نحوا من مائة مليون فرسخ حتى حازيا كوكب المريخ، وهو - كما هو معلوم - أصغر من كرتنا الصغيرة بخمس مرات، فشاهدا قمرين يستخدمان لهذا الكوكب، لم تعثر عليهما أنظار علمائنا الفلكيين، على أنهما خشيا ألا يتوفر لهما فيه مكان للنوم؛ لصغر محيطه، فمرا كما يمر مسافران بحانة قذرة. وبعد مسافة طويلة تراءى لهما شعاع ضئيل، كان هذا الشعاع كرة الأرض، وبديهي أن يثير مشهد كهذا شفقة من يهبط من المشتري، ولكنهما خشيا ألا يجدا مكانا آخر يستريحان فيه؛ فقررا النزول في هذه الكرة الحقيرة، وصادفا مذنب هالي، فركباه وأبصرا فجرا فجلسا فيه، وبلغا الشاطئ الشمالي من المحيط البلطيقي، في الخامس من شهر تموز من العام ألف وسبعمائة وسبعة وثلاثين. (4) ماذا جرى لهما في كرة الأرض؟
بعد أن استراحا قليلا، وأكلا جبلين أعدتهما الحاشية بنظافة وإتقان، أرادا أن يتعرفا إلى البلد الصغير الذي حلا فيه، فذهبا أولا من الشمال إلى الجنوب. وكانت خطوة ميكروميغاس العادية ورجاله تبلغ نحوا من ثلاثين ألف قدم، أما القزمة الزحلي فكان يركض خلف الجبار لاهثا.
وبما أن سيرهما كان على جانب كبير من السرعة، فقد دارا دورة الكرة بست وثلاثين ساعة، والواقع أن الشمس - أو بالأحرى الأرض - تنجز مثل هذه الرحلة بنهار واحد، سوى أن من يدور على نفسه أكثر ممن يمشي على قدميه. وعادا أخيرا إلى حيث كانا بعد أن شاهدا ذلك المستنقع الدقيق المسمى بالبحر المتوسط، وذلك الغدير الصغير المعروف بالأوقيانوس، فلم يغمر الماء سوى النصف الأول من ساق القزمة، ولم يكد الآخر يتبلل عقب حذائه، ولقد بذلا كل ما بوسعهما، في الذهاب والإياب، لمعرفة شيء عن هذه الكرة، وهل هي مأهولة بالسكان أم لا، فانحنيا وتمددا وجسا كل مكان، سوى أن انقطاع التناسب بين أيديهما وأعينهما من جهة، والخلائق الصغيرة التي تدب هنا من جهة أخرى؛ لم يشعرهما بشرف وجودنا نحن وزملائنا من سكان هذه الكرة.
وكان القزمة يتسرع أحيانا في أحكامه؛ فقرر أولا أن لا ساكن في الأرض، وحجته الأولى أنه لم ير أحدا، فأشعره ميكروميغاس بكل تهذيب أن تعليله خاطئ، فقال: أنت لا ترى بعينيك الصغيرتين بعض نجوم أراها أنا بوضوح كبير، أفتستنتج من هذا أن هذه النجوم ليست موجودة؟
فقال القزمة: ولكني لم أدع نقطة إلا جسستها.
فأجاب الآخر: لقد أخطأت الحس.
فقال القزمة: ولكن هذه الكرة رديئة البنيان، شاذة عن قواعد الهندسة، وفي شكل يثير الضحك، ألا يبدو لك أن كل شيء مشوش فيها؟ هذه السواقي الصغيرة تجري بدون أي نظام، وهذه الغدران لا مستديرة هي، ولا مربعة، ولا مستطيلة، ولا في أي شكل منظم، وهذه البذور الصغيرة الحادة (يعني الجبال) تنتفش بها هذه الكرة، وقد خدشت رجلي، أولم تلاحظ أيضا قالب الكرة بمجموعها، كيف أنه مسطح في القطبين، وكيف يدور حول الشمس بطريقة خرقاء تفسد هواء القطبين، فلا يصلحان لزرع ولا لضرع؟ الحقيقة أن ما يحملني على القول بأن لا حياة في هذه الكرة هو ظني أن الإنسان العاقل لا يقبل السكن فيها.
فقال ميكروميغاس: قد لا يكون سكانها من القوم العقلاء، ولكن من مظاهرها ما يدل على أنها لم تخلق عبثا، قلت إن كل شيء يبدو لك مشوشا هنا؛ لأن كل شيء محكم البنيان في زحل والمشتري، وربما لهذا السبب نفسه نرى بعض التشويش في هذه الكرة، ألم أقل لك إني لاحظت في أسفاري أن كل شيء يختلف باختلاف الأماكن؟
ولكان الجدل مضى بهما إلى ما لا نهاية له، لو لم تبلغ حدة النقاش بميكروميغاس مبلغا انقطع معه عقده الماسي، فانفرطت الجواهر، وكانت كبراها تزن أربعمائة ليبرة، وصغراها خمسين، فالتقط القزمة بعضا منها، وإذ تبين له وهو يدنيها من عينيه أن كلا منها ميكروسكوب ممتاز، تناول ماسة يبلغ قطرها مائة وستين قدما، وركبها على حدقته، واختار ميكروميغاس واحدة قطرها ألفان وخمسمائة قدم، ولكنهما لم يبصرا شيئا بادئ ذي بدء، ولما أحكم الزحلي ميكروسكوبه رأى شيئا دقيقا يتحرك بين موجتين في البحر البلطيقي، كان هذا الشيء حوتا، فتناوله ببنصره بلباقة وخفة ووضعه على ظفر إبهامه، وعرضه على رفيقه؛ فلم يتمالك للمرة الثانية من الضحك حين وقع نظره على صغارة المخلوقات في كرتنا هذه.
ولما قنع الزحلي بأن عالمنا مأهول صور له في الحال أنه ليس مأهولا بسوى الحيتان، وبما أنه كان من كبار الراغبين في الإثبات والتحليل، أراد أن يعرف مصدر هذه الذرة، ومن أين تستمد حركتها، وهل لها أفكار وإرادة.
وكان أن الحيوان حير ميكروميغاس، فأخذ يتفحصه بصبر وجلد، وخلص إلى أنه ليس ثمة سبيل إلى الاعتقاد بأن فيه روحا.
وفيما الرحالتان يجنحان إلى تثبيت رأيهما فيما يتعلق بانعدام وجود النفس في قاطني هذه الكرة، أبصرا في الميكروسكوب شيئا أضخم من الحوت؛ يطفو على مياه البلطيقي.
يعلم الجميع أن سربا من الفلاسفة كان عائدا في تلك السنة نفسها من القطب الشمالي، بعد أن أجرى فيه أبحاثا لم تخطر في بال أحد من قبل، فذكرت الصحف أن الباخرة التي كانت تقل هؤلاء الفلاسفة جنحت على شواطئ خليج بوتني، وأن ركابها كابدوا مشقة كبيرة في سبيل النجاة.
وسأقص بنية سليمة كيف جرى ذلك، من غير أن أزيد حرفا من عندي، ولا يخفى ما في ذلك من الصعوبة على المؤرخ. (5) ما أتاه الرحالتان من التجارب والبينات
بسط ميكروميغاس يده بتؤدة نحو الجهة التي ظهر فيها هذا المشهد، وقدم أصبعين من أصابعه، التقط بهما المركب الذي كان يقل أولئك السادة، ثم وضعه على ظفر إبهامه بخفة وعناية؛ مخافة أن يسحقه، فقال القزمة: «هذا حيوان يختلف كل الاختلاف عن الأول.»
وما كاد ميكروميغاس يضع الحيوان المزعوم في باطن كفه، حتى تحرك جميع من في المركب من الركاب والبحارة؛ إذ خيل إليهم أن عاصفة هوجاء رفعت المركب وألقته على جسم يشبه الصخر، وراح البحارة يطرحون دنان النبيذ على يد ميكروميغاس ويترامون وراءها، والرياضيون يأخذون آلاتهم، وينزلون بها على أصابعه، حتى أحس بجسم يدغدغ إحداها، كان هذا الجسم إسفينا أغرز في سبابته؛ فاستنتج من هذا الوخز أن شيئا خرج من الحيوان الصغير، ولم يذهب إلى أبعد من ذلك في بادئ الأمر.
لا تسل عما أتاه فيلسوفنا الشعروي من ضروب الحنكة والحذق ليتمكن من رؤية الذرات التي ذكرتها، فحين رأى لوفنهوك وهارتسويكر، أو حين خيل إليهما أنهما أول من رأى البذرة التي تتكون منها لم يقوما بأدهش من هذا الاكتشاف، ولا تسل عن عظم اللذة التي شعر بها ميكروميغاس وهو ينظر إلى تلك الآلات الصغيرة تتحرك، ويتتبعها في جميع أعمالها، وإذ وضع واحدا من ميكروسكوباته في يدي رفيقه هتف هذا الأخير قائلا: «لقد رأيتها!» وقالا بصوت واحد: «ألا تراها تقل أحمالا، تنحني وتنهض؟»
وكانا يتكلمان وأيديهما ترتجف فرحا برؤية أشياء بهذا المقدار من الجدة، وخوفا من فقدانها، وفيما الزحلي ينتقل من الإسراف في الشك إلى الإسراف في سرعة الإيمان، صور له أنها تتكاثر، عملا بسنة نشر الجنس فقال: «آه! لقد فاجأت الطبيعة في أثناء ارتكابها.» ولكنه انخدع بالمظاهر، والانخداع بالمظاهر كثير الوقوع في حالتي استعمال الميكروسكوب وعدم استعماله. (6) ماذا جرى لهما مع الناس؟
تبين لميكروميغاس، وهو أحسن ملاحظة من قزمته، أن الذرات تتخاطب، وأعلم رفيقه بذلك، سوى أن هذا الأخير - وقد خجل من خطأه في موضوع التناسل - أبى الاقتناع بأن أنواعا كهذه يتفق لها أن تفكر. ومع أنه لم يكن دون الشعروي معرفة باللغات، فلم يتوصل إلى التقاط أصوات الذرات، وبقي مصرا على اعتقاده الأول، وكانت حجته أنه يستحيل على خلايق دقيقة كهذه أن تتكلم، وماذا يمكنها أن تقول؟ فمن شروط الكلام أن يكون ناجما عن الفكر، ومن شروط الفكر أن يكون صادرا عما يوازي النفس، فعزو ما يوازي النفس إلى هذا النوع من الحشرات ضرب من الغباوة.
فقال الشعروي: ولكنك اعتقدت منذ هنيهة أنها تتعاشق، أفتظن أن التعاشق ممكن بدون تفكير، وبدون التلفظ بكلمة، أو بدون تفاهم على الأقل؟! أو تظن أن الإتيان بحجة أصعب من الإتيان بولد؟ ...
فقال القزمة: كلاهما، في مذهبي، من الأسرار العظيمة؛ فقد صرت لا أجرؤ على الإيمان، ولا على النكران، وما دمت لم يبق لي رأي فلنتفحص هذه الحشرات، ثم نعود إلى الأدلة والبراهين.
فقال ميكروميغاس: حسن جدا ما تقوله.
وفي الحال تناول مقصا قلم به أظافره، ومن قلامة إبهامه صنع بوقا كبيرا يشبه القمع، ووضع قصيبته في أذنه، وبدائرة القمع طوق الباخرة وركابها.
كان أضعف الأصوات يتغلغل في عروق الظفر المستديرة، بحيث إن فيلسوف العالم الأعلى سمع بجلاء طنين الحشرات في هذا العالم، وما هي إلا ساعات قلائل حتى تمكن من تمييز الكلمات، وسماع اللغة الفرنسية، وحذا القزمة حذوه ولكن بأشد جهدا منه.
وكانت دهشة الرحالتين تزداد ثانية بعد ثانية لدى سماعهما الحشرات تلزم منطق الحكم السليم، فشرعا يبذلان كل ما بوسعهما لمخاطبة هذه الحشرات، وإذ خشيا أن يصم صوتهما الجهوري مسامعها الدقيقة، وضعا في فمهما مساويك لإضعاف الصوت، ثم أجلس الشعروي القزمة على ركبتيه ووضع المركب وركابه على أحد أظافره، وبدأ يخاطب الحشرات بصوت منخفض جدا، قال: «أيتها الحشرات الخفية، التي حلا ليد الخالق أن تلدها في هوة الصغر المتناهي، إني لأحمده على أنه تنازل، فكشف لي أسرارا كنت إخالها لن تكشف، قد لا يكلف المرء في عالمي نفسه مشقة النظر إليك، ولكني لا أحتقر أحدا وأمد لك يد الحماية.»
لم يسبق للدهشة أن استحوذت على مخلوق مقدار ما استحوذت على أولئك الذين سمعوا هذه الكلمات ولم يحزروا مصدرها؛ فتلا مرشد المركب صلاة التقاسيم، وجدف البحارة، وضرب الفلاسفة قياسا لم يجدهم نفعا، وكان قزمة زحل أرق صوتا من ميكروميغاس، فأطلعهم ببضع كلمات على نوع الخلايق التي تخاطبهم، وقص عليهم رحلة زحل، وأوقفهم على حقيقة السيد ميكروميغاس، وبعد أن أعرب لهم عن أسفه لأجرامهم الصغيرة، سألهم أيلزمون دائما هذه الحالة البائسة القريبة من العدم، وماذا يصنعون في كرة كأنها ملك الحيتان، وهل يتمتعون بالسعادة ويتكاثرون، وهل لهم روح، ومائة من أمثال هذه الأسئلة.
فأثارت هذه الأسئلة، ولا سيما الشك في وجود الروح، مكمن الغضب من صدر رياضي كان قد أبصر مخاطبه عن طريق أحد المراصد، فقال: ألأنك تبلغ ستة آلاف قدم من رأسك إلى قدميك، يخيل إليك يا حضرة السيد أنك ...
فصرخ القزمة قائلا: ستة آلاف قدم! يا للسماء! من أين عرف طولي؟! ستة آلاف قدم! لم يخطئ قيد شعرة، ماذا؟! أبوسع هذه الذرة أن تقيسني ولا يسعني أن أقيسها، أنا الذي لا يستطيع رؤيتها إلا بالميكروسكوب؟!
فقال الرياضي: أجل، لقد قستك وسأقيس أيضا رفيقك الضخم.
فقبل الطلب واضطجع فخامته؛ إذ لو بقي واقفا لظل رأسه محجوبا بالغيوم، فغرس فلاسفتنا شجرة كبيرة في مكان منه، لو كان الدكتور سويفت مكاني لما تردد في تسميته باسمه، ولكني لن أفعل؛ لشدة احترامي للسيدات.
وبدأ فلاسفتنا بإجراء أرقام حسابية خلصوا منها إلى أن الذي يرونه شاب يبلغ طوله مائة وعشرين ألف قدم.
حينئذ لفظ ميكروميغاس هذه الكلمات: «لقد صرت كبير اليقين أنه لا ينبغي لنا أن نحكم بالظواهر، رب! يا من وهبت الذكاء لكل مادة مهما تبلغ صغارتها، إن الأجرام المتناهية في الصغر تكلفك من الجهد مقدار ما تكلفك الأجرام المتناهية في الكبر، وإذا كان من الممكن وجود مخلوقات أصغر من هذه، فلا يستبعد أن يكون لها عقل يتفوق على عقل تلك الحيوانات الرائعة التي رأيتها في السماء، وتستطيع أن تغمر بقدمها الكرة التي هبطت إليها.»
فأكد له أحد الفلاسفة أنه ثمة خلائق ذكية أصغر من الإنسان بكثير، وأخبره ليس عن كل ما ذكره ڨرجيل من الخوارق عن النحل، بل عما اكتشفه سوامردام وشرحه ريومور، وأعلمه أخيرا أن ثمة حيوانات هي من النحل بمثابة النحل من الإنسان، أو الشعروي نفسه من تلك الحيوانات الهائلة التي ذكرها، وهذه الأخيرة من أجرام أخرى لا تبدو أمامها إلا بمثابة ذرات.
وما زالوا يتباحثون حتى دخلوا في مواضيع راقت الرحالتين جدا، فقال ميكروميغاس: (7) حديث مع الناس «أيتها الذرات الذكية! يا مستودعا لعظمة الخالق وفطنته، لا شك أنك تتمتعين بملذات طاهرة في كرتك؛ لأنك وأنت قليلة المادة كثيرة العقل، لا يمكنك إلا أن تصرفي حياتك في الحب والتفكير، وهي حياة الأرواح الصحيحة! لم يتفق لي أن أجد السعادة الحقيقية في مكان، ولكني لا أشك في أنها تقطن هذه البقعة.»
فلما سمع الفلاسفة هذا الكلام هزوا رءوسهم، واعترف أحدهم وهو أشد صراحة من الآخرين، أنه إذا استثني عدد قليل من السكان يبقى جماعة من المجانين والأردياء والبائسين، قال: إن المادة التي تتكون منها هي أكثر مما نحتاج لنرتكب كثيرا من الشر إذا كان الشر يصدر عن المادة، والروح التي فينا هي أوسع مما نحتاج إذا كان الشر يصدر عن الروح، أتعلم أن مائة ألف مجنون مبرنط من جنسنا يعمدون في الساعة التي أخاطبك فيها إلى قتل مائة ألف حيوان آخر معمم، أو أن هؤلاء يقتلون أولئك؟
فارتعش الشعروي وسأله عن سبب هذه المخاصمات الشنيعة بين حيوانات بهذا المقدار من الحقارة، فأجابه الفيلسوف: إن السبب في هذه المخاصمات يرجع إلى حمأة لا تبلغ مساحتها ما تبلغه مساحة عقبك، يذهب بعضهم إلى أنها ملك رجل يدعى «السلطان»، ويذهب آخر إلى أنها ملك رجل يدعى «القيصر»، ولا أعلم لماذا يدعي كذلك، ولم يسبق لهذا ولا لذاك أن رأى بقعة الأرض التي يقتتلون لأجلها ولن يراها أبدا، كما أنه لم يتفق لأي من الحيوانات التي تتناحر أن رأى بعينه الحيوان الذي يجري التناحر لأجله.
فصرخ الشعروي غاضبا وقال: يا لهم من أشقياء! تحدثني نفسي بأن أخطو ثلاث خطوات، وأسحق بثلاث رفسات وكر أولئك القتلة المضحكين.
فقال الفيلسوف: لا تكلف نفسك تلك المشقة، فهم يجدون في العمل على هلاك أنفسهم، ولن تمضي عشرة أعوام حتى لا يبقى نزر قليل من أولئك البائسين؛ فالجوع والأتعاب والطمع نذير ينذرهم بالهلاك إذا لم ينذرهم السيف، والواقع أن الذين يستحقون العقاب ليسوا هؤلاء، بل هم أولئك البرابرة القاعدون، الذين يصدرون من داخل دواوينهم وفي أويقات الهضم أوامرهم بقتل مليون رجل، ثم يحمدون الله علنا على ما فعلوا.
فشعر الرحالة بدافع يدفعه إلى الشفقة على الجنس البشري، الذي اكتشف فيه ذلك القدر من المتناقضات المدهشة، فقال لأولئك السادة: بما أنكم في جملة ذلك العدد الصغير من العقلاء لا تظلمون على ما يظهر، ولا تقتلون طمعا في المال، فأسألكم أن تطلعوني على نوع الأعمال التي تقومون بها.
فقال الفيلسوف: إننا نشرح ذبابا ونقيس خطوطا، ونجمع أعدادا، فنتفق على نقطتين أو ثلاث نقاط نفهمها، ونختلف على ألفين أو ثلاثة آلاف لا نفهمها.
فحلا للشعروي وللزحلي أن يستنطقا تلك الذرات المفكرة؛ ليعرفا الأشياء التي تتفق عليها، فقال هذا الأخير: كم تعدون من الشعرى إلى برج الجوزاء؟ فأجابوا كلهم بصوت واحد: اثنتين وثلاثين درجة ونصف درجة. كم تعدون من هنا إلى القمر؟ ستين نصف قطر من الأرض. كم يبلغ ثقل الهواء الذي تعيشون فيه؟ وكان يعتقد أنهم يجهلون، ولكنهم أجابوا جميعا أن الهواء يزن نحوا من تسعمائة مرة أقل من مثل هذا الجرم من أخف ماء، وتسعة عشر ألف مرة أقل من ذهب البدرة.
فدهش القزمة الزحلي من أجوبتهم حتى كاد يحسبهم من السحرة، وكان لربع ساعة خلا أبى أن يعترف بوجود نفس فيهم.
وأخيرا قال لهم ميكروميغاس: بما أنكم تحسنون معرفة ما يخرج عنكم، فلا شك أنكم أحسن معرفة بما يدخل فيكم، فما هي نفسكم؟ وكيف تكونون أفكاركم؟
فتكلم جميع الفلاسفة دفعة واحدة شأنهم في البداية، ولكنهم جاءوا بآراء مختلفة؛ فأكبرهم سنا أورد أرسطاطاليس، ومنهم من ذكر اسم ديكارت أو لبنيتز أو لوك؛ أما التابع لمذهب أرسطاطاليس فقال بصوت مرتفع وبلهجة الواثق من نفسه: إن النفس هي الكمال في الذات، وهي علة تملك على يدها القدرة على أن تكون كما هي، هذا ما صرح به أريسطو في الصفحة ال 633 من طبعة اللوفر.
وأورد الفيلسوف استشهادا باللغة اليونانية، فقال المارد: أنا لا أحسن اللغة اليونانية. فقالت الحشرة الفلسفية: ولا أنا كذلك. فاستطرد الشعروي قائلا: فيم إذن تستشهد بذلك الأريسطو باللغة اليونانية؟ فأجاب العالم : لأنه يجب أن نستشهد بما لا نفهم باللغة التي نحن أقل فهما لها من سواها.
وقال التابع لمذهب ديكارت: النفس هي روح طاهرة، اكتسبت في أحشاء أمها جميع الأفكار الميتافيزية، وعند خروجها من أحشاء الأم ذهبت توا إلى المدرسة، فتلقنت من جديد كل ما كانت تدركه تمام الإدراك، وظلت جاهلة إياه تمام الجهل.
فأجاب الحيوان البالغ من الطول ثمانية فراسخ: كان الأحرى بنفسك ألا تكون عالمة في بطن أمك من أن تكون جاهلة، وأنت صاحب لحية، ولكن ماذا تفهم بالروح؟
فأجاب الفيلسوف: ما معنى سؤالك هذا؟ يقال إنها ليست المادة. - ولكن أتعلم على الأقل ما هي المادة؟ - تمام العلم، خذ مثلا هذا الحجر، فهو أغبر اللون، وذو شكل ما، وله أقيسته الثلاثة، كما له ثقله وقابليته للتجزيء.
فقال الشعروي: حسن، فما هو هذا الشيء الذي يبدو لك قابلا للتجزيء، ثقيلا وأغبر؟ أنت ترى بعض خاصيات، أما كنه الشيء فهل تعرفه؟ فأجاب الفيلسوف: لا. - إذن أنت لا تعرف ما هي المادة.
ووجه ميكروميغاس الكلام إلى حكيم آخر كان على إبهامه، فسأله ما هي نفسه؟ وماذا تعمل؟ فأجاب الفيلسوف الماليبرانشي أنها لا تعمل شيئا، قال إن الله هو الذي يعمل كل شيء لأجلي؛ فأنا أرى كل شيء فيه وأعمل فيه كل شيء، وهو الذي يعمل كل شيء بدون تدخلي.
فقال حكيم الشعري: كل هذا دليل على عدم الفائدة من وجودك.
وتحول إلى أحد أشياع لبنيتز وسأله قائلا: وأنت يا صاح، ما هي نفسك؟ فأجاب اللبنيتزي: هي إبرة تشير إلى الساعات بينا جسدي يدق، أو إذا شئت هي التي تدق بينا جسدي يشير إلى الساعات، أو أن نفسي مرآة الكون وجسدي إطار هذه المرآة، وكل هذا في منتهى الوضوح.
وكان أحد أشياع لوك واقفا على مقربة، فلما وجه إليه السؤال أجاب: لا أدري كيف أفكر، ولكني أدري أني ما فكرت مرة إلا بداع من حواسي، ولست أشك في وجود جواهر مجردة من المادة وذكية، ولكني أشك جدا في أنه يستحيل على الله أن يعطي المادة فكرا، إني أجل القدرة الأبدية، وليس من شأني أن أحدها، ولست أؤكد شيئا، وأكتفي بأن أعتقد أن الأشياء الممكنة أكثر وجودا مما يظن.
فابتسم الحيوان الشعروي؛ إذ لم يجد هذا الأخير دون الآخرين حكمة، ولكان قزمة زحل عانق تابع لوك لولا التفاوت العظيم بينهما.
ولكن سوء البخت شاء أن يكون هناك حيوان ذو قبعة مربعة قطع الكلام على جميع الحيوانات الفلاسفة، قائلا إنه يعرف كل السر فهو في كلام القديس توما، وبعد أن نظر إلى الرحالتين من قمة رأسهما إلى باطن قدمهما، أكد لهما أن شخصيهما والعوالم التي جاءا منها والشموس والنجوم لم تخلق إلا للإنسان.
فأطلق الرحالتان من ذلك الضحك المتأجج، الذي قال عنه هوميروس إنه قسمة الآلهة، وكانت أكتافهما وبطناهما تذهب وتجيء، ويستلقي أحدهما على الآخر حتى سقط المركب من ظفر الشعروي، واختفى في طية من سروال الزحلي، فأخذا يجدان في البحث عنه، ولما وجداه عاد الشعروي إلى ملاطفة تلك الحشرات، وإن يكن ساءه في أعماق نفسه أن يرى في المتناهين في الصغر عجرفة متناهية في الكبر، ووعدهم بأن يضع لهم كتابا في الفلسفة يرون فيه منتهى الأشياء، وفي الواقع أعطاهم هذا الكتاب قبل ذهابه، فحملوه إلى أكاديمية العلوم في باريس، ولكن لما فتحه أمين السر لم ير إلا أوراقا بيضاء!
ممنون أو الحكمة البشرية
صح عزم ممنون يوما أن يكون حكيما كاملا، وليس في الناس من لم يخطر في باله أحيانا هذا الخاطر الأحمق.
قال ممنون في نفسه: ليس لي لكي أكون حكيما، ومتى صرت حكيما صرت في منتهى السعادة، إلا أن أجرد نفسي من الأهواء، وليس أسهل من هذا الأمر؛ فأول ما أعمله أني لن أحب امرأة؛ فإذا رأيت جمالا كاملا أقول في نفسي: هاتان الوجنتان ستنكمشان يوما، وهاتان المقلتان الجميلتان ستذبلان، وهذا الجيد المستدير سيصير متهدلا بشعا، وهذا الرأس الجميل سيمسي أصلع. وليس لي إلا أن أراه منذ الآن بالعين التي ستراه فيما بعد؛ لأكون واثقا من أن هذا الرأس لن يلعب برأسي .
وثاني ما أعمله أني أزهد في الأكل والشرب، فإذا أغوتني الأطعمة الشهية والخمور اللذيذة وفتنة المجتمع، فليس لي إلا أن أتمثل عواقب الإفراط؛ من ثقل في الرأس، وتلبك في المعدة، وضياع العقل والصحة والوقت؛ فأعتدل في الأكل والشرب، فتعتدل صحتي وتصفو أفكاري وتشرق، وكل هذا من السهولة بحيث لا أرى أي فضل في الوصول إليه.
ثم يجب أن أصرف بعض الاهتمام إلى ثروتي، فرغباتي معتدلة وأموالي المضمونة تسمح لي بأن أعيش في غنى عن الآخرين، وهذه أعظم النعم إذ لن أضطر إلى بذل ماء الجبين في التسكع لأولي الجاه، ولن أحسد أحدا ولن يحسدني أحد، أما أصدقائي فسأحتفظ بهم؛ لأنهم لن يجدوا عندي موضوعا لنزاع، وهذا أيضا من السهولة بمكان.
وما كاد ممنون يضع على هذا الشكل خطته الصغيرة للوصول إلى الحكمة حتى أطل من نافذته، فرأى امرأتين تتنزهان تحت شجرة الدلب بالقرب من بيته؛ كانت إحداهما مسنة وكأنها لا تفكر في شيء، والأخرى شابة جميلة وكأنها شديدة الانهماك، فكانت تتنهد وتبكي فتزداد ظرفا وملاحة، فتأثر حكيمنا ليس بجمال السيدة؛ إذ كان كبير اليقين أن الضعف لن يتملكه من هذه الناحية، بل بمظهر الحزن الذي بدت فيه، فنزل إليها ليواسيها بحكمة، فقصت عليه بلهجة ساذجة مؤثرة المظلمة التي أنزلها بها عمها، ولم يكن لها عم، وكيف أنه انتزع منها أموالها، ولم يكن لها أموال، وكل ما كانت تخشى من عسفه وطغيانه، قالت: يبدو لي أنك رجل حسن النصح، فإذا تلطفت فصحبتني إلى بيتي وتفحصت شئوني، فإنك ولا شك رافع عني ما يرهقني من الهم. فلم يتردد ممنون في الذهاب معها ليتفحص شئونها بحكمة ويسدي إليها نصيحة حسنة.
فمضت به السيدة الحزينة إلى غرفة معطرة، وأجلسته معها بأدب وحشمة على مقعد عريض، وراحت تتكلم خافضة النظر، وكلما ارتفع نظرها المندى بالدمع صادف نظر الحكيم ممنون، وكان كلامها طافحا بحنو يتضاعف كلما التقى النظران، فيشعر ممنون من حين إلى حين بدافع عظيم يدفعه إلى تأدية معروف لشخص على هذا الجانب من الاستقامة وسوء البخت، وكانت نصائح ممنون لها من الرقة بحيث خرج بهما الحديث عن نطاق الشئون.
وهما كذلك، دخل العم كما كان متوقعا، وكان مدججا بالسلاح من قمة رأسه إلى باطن قدميه، وأول كلمة تلفظ بها أنه سيقتل الحكيم ممنون وابنة شقيقه، وآخر ما تلفظ به من الكلام أنه يقبل الصفح لقاء كمية وافرة من المال، فاضطر ممنون إلى إعطائه كل ما كان لديه، وفي ذلك الزمان كان سعيدا من يستطيع تبرئة ذمته بمثل هذه الصفقة البخسة، فأميركا لم تكن بعد قد اكتشفت، والسيدات الحزينات لم يكن خطرات مقدار ما هن اليوم.
ولما عاد ممنون إلى بيته خجلا ومغتما، وجد بطاقة تدعوه إلى تناول الغداء مع رهط من أصدقائه الخلص، فقال في نفسه: إذا بقيت وحدي هنا أفسح لنفسي سبيل التفكير في حادثتي المؤسفة؛ فأمتنع عن الأكل وأمرض، فالأفضل أن أشاطر أصدقائي الخلص طعامهم الشهي؛ فأنسى في عذوبة محيطهم ما أتيته من الحمق هذا الصباح.
وإذ علم أصدقاؤه بما حل به حملوه على الشرب ليسري عنه؛ فقليل من الخمر دواء للروح وللجسد، هكذا قال الحكيم ممنون في نفسه، وشرب حتى السكر، وبعد الطعام اقترح عليه أن يلعب، فلعبة معتدلة مع أصدقاء هي ألهية صالحة، فلعب فخسر كل ما كان في كيسه وأربعة أضعاف ما كان فيه تعهد بدفعها. وكان أن احتدم الجدل في أثناء اللعب، فرماه أحد أصدقائه الخلص على رأسه ببوق، صادف عينه ففقأها، فحمل الحكيم ممنون إلى بيته سكران بلا مال وأعور.
وما كاد يصحو من سكره حتى أرسل خادمه إلى مديونه ليجيئه بمال يدفعه إلى أصدقائه الخلص، فقيل له إن مديونه أفلس في الصباح تاركا مائة عائلة في قبضة البؤس، فذهب ممنون إلى البلاط ليشكو المفلس إلى الملك، وكان على عينه مرهم وفي يده عريضة، فصادف في إحدى القاعات رهطا من السيدات، فقالت إحداهن ناظرة إليه خلسة، وكانت تعرفه قليلا: «يا للفظاعة!» وقالت له أخرى، وكانت أكثر معرفة به: «عم مساء يا سيد ممنون، إني مسرورة برؤيتك يا سيد ممنون، ولكن لماذا يا سيد ممنون خسرت إحدى عينيك؟» ومرت بدون أن تنتظر جوابه، فاحتجب ممنون في زاوية، وانتظر ريثما يحين الوقت ليرتمي على قدمي الملك، ولما حان قبل الأرض ثلاث مرات وقدم عريضته، فأولاه الملك حسن التفاته، وناول العريضة أحد أفراد حاشيته ليعمل بمقتضى فحواها، فمضى الرجل بممنون إلى ناحية، وقال له بلهجة تتقاسمها العجرفة والسخرية اللاذعة: يا لك أعور مضحكا! أتجرؤ على رفع عريضتك إلى الملك بدلا من رفعها إلي؟ وتتجاسر على أن تشكو مفلسا شريفا يتمتع بشرف حمايتي، وهو نسيب لإحدى وصائف عشيقتي؟ إذا شئت أن تحتفظ بالعين الباقية لك فارجع عن هذه الدعوى.
وهكذا رأى ممنون نفسه، بعد أن عدل في الصباح عن النساء، وعن الإفراط في الطعام، وعن اللعب والمشاحنات، وعن البلاط بوجه خاص؛ قد انخدع بسيدة حسناء، وسرق، وسكر، ولعب، وخوصم، وخسر إحدى عينيه، وذهب إلى البلاط حيث سخر منه، وكل هذا حصل له قبل أن يهبط الليل.
عاد ممنون إلى بيته ممزق القلب من الألم، وقبل أن يدخل رأى رسل المحكمة يصادرون الأثاث من قبل دائنيه، فلبث تحت شجرة دلب على وشك أن يغشى عليه، وفي تلك الآونة مرت سيدة الصباح مع عمها العزيز، فلما وقع نظرها على ممنون معصوب العين انطلقت في الضحك، وإذ هبط الليل استلقى ممنون على كومة قش إزاء جدران بيته، وأصابته الحمى فرقد، وإذا بروح سماوي يتراءى له في الحلم.
كان هذا الروح يشع نورا، وله ستة أجنحة جميلة، ولكن ليس له قدمان، ولا رأس، ولا ذنب، ولا يمت بشبه إلى أحد، فسأله ممنون قائلا: من أنت؟ فأجابه الروح: أنا روحك الصالح. فقال له ممنون: رد إلي إذن عيني وصحتي ومالي وحكمتي، ثم قص عليه كيف خسر كل هذا في يوم واحد.
فقال الروح: هذه الحوادث لا تحصل لنا أبدا في العالم الذي نقطنه.
فقال الرجل الحزين: وأي عالم تقطنون؟
فأجاب الروح: إن وطني يبعد مسافة خمسمائة مليون فرسخ عن الشمس، فهو في نجمة صغيرة بالقرب من الشعرى التي تراها من هنا.
فقال ممنون: يا له بلدا جميلا! أليس عندكم لصات يخدعن رجلا مسكينا، ولا أصدقاء خلص يربحون ماله، ويفقئون عينه، ولا مفلسون، ولا حاشية تسخر منك وترفض دعواك؟
فقال ساكن النجمة: لا، ليس عندنا شيء من هذا؛ فنحن لم ننخدع بالنساء؛ إذ ليس عندنا نساء، ولا نفرط في الطعام؛ لأننا لا نأكل، وليس عندنا مفلسون؛ إذ ليس عندنا ذهب ولا فضة، وليس بوسع أحد أن يفقأ لنا أعيننا؛ إذ ليس لنا أجساد كأجسادكم، ورجال الحاشية لا يظلموننا؛ لأن جميع الخلق متساوون في نجمتنا الصغيرة.
فقال له ممنون: بماذا تصرفون وقتكم يا حضرة السيد الذي لا يعرف النساء ولا يأكل ولا يشرب؟
فأجاب الروح: نصرفه في السهر على سائر الكرات التي عهد إلينا بالسهر عليها، وها أنا ذا قد جئت لأواسيك.
فقال ممنون: واحسرتاه! لماذا لم تجئ في الليلة الفائتة لتمنعني من ارتكاب تلك الحماقات كلها؟
فأجابه المخلوق السماوي: كنت منشغلا بحسن، أخيك البكر، فهو أدعى إلى الشفقة منك؛ فصاحب الجلالة ملك الهند الذي أوتي أخوك شرف الإقامة ببلاطه، أمر بأن تفقأ له عيناه الاثنتان بسبب هفوة صغيرة، وهو الآن في السجن مكبل اليدين والرجلين بالحديد.
فقال ممنون: إن وجود روح صالح في عائلة لا يخلو من الفائدة، ما دام لا يمنع أن يصير أحد الأخوين أعور والآخر أعمى، أحدهما على القش والآخر في السجن.
فقال حيوان النجمة: ولكن حظك سيتبدل، لا أكتمك أنك ستبقى دائما أعور، ولكنك ستذوق شيئا من السعادة بشرط أن لا تحدثك نفسك بالوصول إلى الحكمة الكاملة.
فقال ممنون متنهدا: إذن يستحيل على الإنسان أن يصير حكيما كاملا؟
فأجابه الروح: كما يستحيل عليه أن يبلغ المهارة الكاملة، والقوة الكاملة، والسلطة الكاملة، والسعادة الكاملة، نحن أنفسنا أبعد بكثير من بلوغ هذا الكمال، ثمة كرة يجتمع فيها كل هذا، ولكن كل شيء يتعاقب تدريجا في المائة الألف من ملايين العوالم المنتشرة في المدى الرحب؛ ففي الثاني تقل الحكمة واللذة عنهما في الأول، وفي الثالث تقلان عنهما في الثاني، وهكذا دواليك حتى تصل إلى الأخير وكل من فيه مجانين.
فقال ممنون: أخشى أن تكون كرتنا الصغيرة هذه هي العالم الذي ذكرته.
فقال الروح: ليس تماما ما تقول، بل هي قريبة منه، يجب أن يكون كل شيء في مكانه.
فقال ممنون: ولكن هل أخطأ بعض الشعراء وبعض الفلاسفة في قولهم: إن كل شيء حسن؟
فأجاب الفيلسوف السماوي: بل أصابوا كل الإصابة حين نظروا إلى تنظيم الكون بمجموعه.
فاعترض ممنون المسكين بقوله: لن أصدق ذلك إلا حين يزول عوري.
الزوجة المخلصة
كان في بغداد القديمة، على عهد الملك «معبدر»، رجل مقبل العمر يدعى «صادقا»، فطر على سلامة الطبع، وعلى خلق، صقل بما تهيأ له من أسباب التهذيب، وكان مع وفرة غناه وطلاقة شبابه يحسن أن يلطف أهواءه، فلا يتردى بثوب غير ثوبه ولا يغتم، ثم إنه كان يأبى أن يكون الحق إلى جانبه في كل حين، وكان أيضا على خبرة في ضعف الناس، فلم يجنح عن احترام الوهن في صدر أي كان.
أما الناس فكانوا يدهشون إذ يرونه، مع بسطة علمه ونضوج عقله، لا يتردى بداعر الكلام إلى شتم تلك الخزعبلات الباطلة، والاستخفاف بتلك العربدة الممقونة، أو تلك النمائم المتهورة والآراء المغفلة، والممازحات الغليظة الجافة، وذلك الكلام الزهوق، وإلى كل ما كان يطلق عليه كلمة «مطارحات» في بابل.
كان صادق قد أخذ عن الكتاب الأول، الذي ألفه «زردشت»، أن الأنانية كرة هوائية منتفخة، متى وخزت خرجت منها زوابع؛ فلم يكن ليذهب بنفسه أنه يحتقر النساء، أو يملك عليهن مذاهب الجدل؛ إذ كان كريم النشأة أدعى إلى التساهل بما تناهى إليه من إباء النفس، حتى إنه لم يكن يخشى أن يصطنع إلى الجاحدين، على حد قول «زردشت» في هذه القاعدة الوجيهة: «عندما تأكل أطعم الكلاب ولو أيقنت أنها ستعضك.» وكان حكيما بقدر ما اتسع لذاك الزمن من أسباب الحكمة؛ إذ كان يتسلل إلى أماكن الحكماء ليعيش معهم. ألم بأطراف العلوم الكلدانية القديمة، فلم يكن يجهل أصول الطبيعيات بحسب ما كان يتناولها عصره، وفوق ذلك كان يدرك من علم المعقولات ما أدركه الناس في أي عصر كان؛ أعني نزرا تافها لا يتدلى إلى ذكره اللسان.
وكان يعتقد كل الاعتقاد أن السنة ثلاثمائة وخمسة وستون يوما على رغم الفلسفة الجديدة التي كان يحيط بها زمانه، وأن الشمس تقوم في وسط العالم، وحين كان وجوه الموابذة يقولون له بمخيلة من شأنها أن تقضي شهوة من العبث به، إنه على جانب من فساد الرأي، وإن قوله في دوران الشمس على نفسها واعتباره السنة في اثنى عشر شهرا، إنما هو مظهر من مظاهر العداء للدولة، كان يلزم الصمت من غير أن يدع للغضب أو للهوان سبيلا إليه.
لقد أمكنه الله من نواصي الغنى، وأمده بأصدقاء أوفياء، ومنحه عافية ووجها وسيما مع روح عادل لا يتهور، وقلب صادق نبيل؛ فشخص له أنه يقدر أن ينحط على جوانب السعادة، وكان يرغب في الزواج من «سمير»، وهي فتاة تهيأ لها من أسباب الجمال والثروة وكرم النشأة ما جعلها أول قسمة في بابل.
كان «صادق» يضمر لها في صدره كلفا راسخا عفيفا، وتضمر له حبا يتدلف بها إلى الهوى، حتى إنهما كانا من القران السعيد على أيام ساعة أبصرا، وهما يتنزهان معا تحت النخيل المزين شواطئ الفرات، جمعا من رجال مدججين بسيوف وحراب، كان هؤلاء أتباع «أركان» الفتى، وهو ابن أخت وزير، وقد صور له جلساء خاله أنه إن عالج امرأ ملك عليه من جميع أطرافه، ولم يكن الله قد فسح له فيما فسح لصادق، إلا أنه كان يائسا من بلوغ الذروة التي بلغ إليها هذا، مع اعتقاده أن أسباب المعرفة هي أوفر في نخاعه مما هي في نخاع صادق. هذه الغيرة التي لم تأت إلا عن الادعاء والزهو بالنفس، صورت له أنه يحب «سمير» حتى الوله فحدثته نفسه بخطفها، وما هي إلا فترة حتى قبض الخاطفون عليها. وفي نزوة من نزوات حدتهم أصابوا منها جرحا من حيث لم يتعمدوا، فأسالوا دم شخص لو تناولت نمرة جبل «إيماووس » نظرة منه لما ملكت نفسها من الحنو والشفقة!
كانت «سمير» تشق جلدة السماء بصراخها وشكواها، وتنادي إليها حبيبها صارخة: «إنهم يسلخونني عمن أعبد يا حليلي!» ولم يكن همها منصرفا إلى الخطر المحدق بها، بل كان منصرفا كله إلى حبيبها صادق، الذي كان يعالج في الذود عنها كل ضروب الشدة التي تفتقها البسالة والحب.
وفي نهاية الأمر أتيح لصادق، بمؤازرة اثنين من العبيد، أن يشتت شمل الخاطفين، وينكفئ بسمير إلى بيتها وهي مغشي عليها ومضروجة بالدم.
لما فتحت عينيها وقعتا على منقذها فقالت له: «كنت أحبك يا صادق حب الحليلة لحليلها، أما اليوم فإني أحبك كما يجب أن أحب من أنا مدينة له بالشرف والحياة.»
لم يجاور قلب بشري تأثر أبعد من التأثر الذي جاور قلب سمير، ولم ينطق فم ساحر بعاطفة وحنو أكيدين أخلص مما نطق به فم هذه المخلوقة في تلك العبارات النارية المتأججة، التي تلهمها عاطفة تنتسب إلى أجل فضل وأنبل معروف، ويوحيها أرق هيجان لأحق هوى.
كان جرحها طفيفا لا يدعو إلى قلق، أما جرح «صادق» فكان بالغا؛ إذ أصيب بسهم في محجره لم يسلم منه.
لم تسأل «سمير» الآلهة إلا أن تمنحها شفاء حبيبها، وكانت عيناها منطلقتين في الدموع صباح مساء، وهي ترقب الحين الذي يتاح فيه لمقلتي صادق أن تتمتعا بالنظر إلى مقلتيها، إلا أن قروحا فاجأت العين المجروحة، فأشاعت الخوف في كل خلجة من خلجات سمير.
جيء من «منفيس» بالطبيب الأكبر «هرمس»، ومعه موكب عظيم من حاشيته، فصرح بعد الفحص أن المريض لن يسلم من فقد عينه، حتى إنه تدلف في حكمه إلى التنبؤ عن اليوم وعن الساعة اللذين سيحل فيهما ذلك المصاب الجلل، وقد خلص في كلامه إلى القول: «لو كان الجرح في المقلة اليمنى لما صعب علي شفاؤه، أما وهو في المقلة اليسرى فلن يشفى.»
لم تجد بابل مندوحة عن النزاع في أمرها على احترام معارف «هرمس»، في حين أنها كانت تشترك في التأسف على ما أحاط القدر بصادق من ألوان التعاسة ، وما هي إلا ثمان وأربعون ساعة حتى زالت القروح من نفسها وتم لصادق الشفاء، فوضع «هرمس» كتابا بين فيه أن صادقا وإن شفي إلا أنه كان عليه ألا يشفى.
أما صادق فلم يحفل بالكتاب ولم يقرأه، ولكنه لما وطئ له الخروج من بيته شرع في إعداد العدة لزيارة تلك التي كانت رجاءه الوحيد في سعادة عيشه، والتي من أجلها وحدها كان يشتهي أن يكون له عينان.
كانت سمير في خلال ذلك قد أنتجت قرية في خارج المدينة لتصرف من الأيام ثلاثة، فانتهى لصادق وهو في الطريق أن تلك المرأة الجميلة، بعد أن أعلنت أنها لا ترى في العور إلا بشاعة كبيرة، قد زفت إلى «أركان» في الليلة نفسها التي اختلط فيها النور على صادق، فقطع به لدى هذا الخبر المشئوم، وأسقط في يده حتى كاد الحزن يفقده الحياة.
بقي مدة طويلة يتقلب على فراش المرض إلى أن تمنع العقل من حزنه بالحصن القوي، وإلى أن أمكنته فظاعة ما اختبر من الوصول إلى مواطن العزاء، فقال: «بما أني نفضت عن نفسي هوى قاسيا صرمته فتاة تقلبت في طرف البلاط أعطافها، فيجب علي أن أتزوج من ابنة وطنية.»
واختار حليلة له «عذراء»، وهي ابنة أكرم من في المدينة نشأة، وأوفر بنات جنسها حكمة، فتزوجها وعاش معها شهرا كاملا تمتع فيه بعذوبة الاتحاد وحنانه، إلا أنه كان يشتم فيها ميلا خفيفا إلى الطيش ورغبة شديدة في أن تجد دائما أن أكرم الشباب نشأة هو من توفرت فيه أسباب الفضيلة والرشد.
في أحد الأيام عادت «عذراء» من نزهة، والغضب يجهم أسارير وجهها، وصراخ الدهشة يملأ فمها، فقال لها صادق: ما حل بك يا زوجي الحبيبة؟ ومن يستطيع أن يخرجك عن نفسك؟
فقالت: آواه! لو شهدت ما شهدته لملك عليك السخط كما ملك علي، خرجت لأعزي أرملة «كاسر» الشابة، التي بنت منذ يومين ضريحا لزوجها الشاب على جانب الساقية التي تكتنف هذا المرج. لقد وعدت الآلهة ساعة حزنها أن تلزم الضريح ما جرت مياه تلك الساقية على قدميه.
فقال صادق: فيم الغضب إذن؟ إنها لامرأة وقور تحب زوجها حبا صادقا.
فتأوهت عذراء واستطردت قائلة: آه، لو أنك عرفت أي أمر كان يشغلها ساعة أتيت لزيارتها!
فقال: أي أمر يا جميلتي عذراء؟
فقالت: كانت تحول الماء عن قدم الضريح.
وأرسلت عذراء نفسها على استمطار ألوان الشتائم، وانطلقت تردد كل أنواع المثالب بحق الأرملة الشابة، فلم يرق صادقا هذا النوع من الفضيلة.
وكان لصادق صاحب يدعى «قادور» قسط له في النبل والخلق الكريم، فنزل من نفس عذراء منزلا موفور الكرامة، فوطأ له صادق رحابة بيته وأدخله في عهدته، وقد وثق من أمانته بقدر ما اتسع له لما اتصف به الرجل من حاضر شريف وصيت حسن. أما عذراء فإنها بعد أن صرفت يومين بضيافة صديقة لها في ظاهر المدينة، عادت في اليوم الثالث إلى البيت، ففاجأها الخدم والدموع تنحدر من أجفانهم بأن زوجها قد مات على حين غرة في الليلة نفسها التي خرجت فيها لزيارة صديقتها، وزادوا على ذلك أنهم دفنوا صادقا في ضريح آبائه في طرف الحديقة.
فانطلقت عذراء في البكاء الشديد، وملك عليها الحزن من جميع أقطارها، فأخذت تنتف شعرها وأقسمت ألا تحيا بعده.
في المساء استأذنها «قادور» في التحدث إليها، واستسلما للبكاء معا. وفي اليوم التالي فطرا على مائدة واحدة، وكان بكاؤهما أقل منه في اليوم المنصرم، فأفضى إليها «قادور» أن صديقه ترك له القسم الأوفر من ملكه، وأنه يقف سعادته كلها لاقتسام الثروة بينه وبينها، فبكت المرأة، ثم حزنت، ثم لانت، وتناول العشاء من الوقت أكثر مما تناول الغداء.
وما زال «قادور» يدارجها في الكلام، ويلطف في حديثه معها حتى ارتفعت الكلفة، واستوثق أحدهما من الآخر، فتدلت «عذراء» إلى الثناء على المرحوم، سوى أنها لم تجد بدا من مصارحة «قادور» بأن صادقا وإن كان بعيد الهمة فإن له نقائص تنزه هو عنها.
في منتصف العشاء تشكى قادور من ألم شديد في معدته، فأشكل على المرأة من شدة الأسف، وانطلقت تعالج فيه كل أنواع الأريج الذي تتعطر به لعلها تقع منها على نوع يصلح لداء المعدة.
وكانت في الوقت نفسه تأسف جد الأسف لكون «هرمس» الكبير لم يبق في بابل، حتى إنها تلطفت فجست ملمس الألم من «قادور»، وقالت له بتودد وشفقة: هل عالجت هذا الداء الوبيل فاستوصفت دواءه؟
فأجابها: إنه ليتزاحف بي أحيانا إلى حافة القبر، ولا يقيلني إياه ويشيع في الصحة إلا دواء واحد؛ هو أن يلصق على جهة الألم أنف رجل لم يمر أكثر من ليلة على موته.
فقالت عذراء: إنه لدواء غريب!
ثم استوت على فكرة فأردفت قائلة: حين يتخطى زوجي عالم الأمس إلى عالم الغد على جسر «شنوار»، هل يعمي عزرائيل السبيل عليه، فلا يستبين موضع خطوه لأن أنفه يكون أقصر في الحياة الثانية منه في الحياة الأولى؟
قالت هذا وأخذت محلقا، وخرجت إلى ضريح زوجها فرطبته بدموعها، ودنت من «صادق» لتبتر أنفه فرأته ممددا في وسط الضريح، في تلك الآونة نهض «صادق» قابضا على أنفه بيد وموقفا المحلق بالأخرى، وقال لها: لا تتحيفي بعد من حق أرملة «كاسر»؛ فإن تعمدك بتر أنفي ليوازي، ولا مرية، تحويل ساقية عن مجراها.
سزوستريس
تعرفون أن لكل امرئ روحا صالحا يرشده ويقود خطاه في مسالك هذه الحياة القصيرة، وهذا الروح لا يبدو لأنظارنا، ولكنه يرافقنا من غير أن نراه.
ومعلوم أن الأرواح الصالحة كانت في الماضي أكثر مؤالفة لنا منها اليوم، تحدثنا وتعيش معنا - ولا سيما مع الملوك - عيشة الأصدقاء الخلص.
ففي مساء أحد الأيام فيما الملك سزوستريس يتنزه مع ملاكه على الشاطئ بالقرب من منفيس، قال له: ها أنا ذا ملك يا سيدي، وبودي أن أستحق الملك، فكيف أعمل؟
فأجابه مرشده: تعال معي إلى هذه البناية الكبيرة، التي بنى أوزيريس سورها الجميل، تتعلم كيف تعمل.
فأطاع الملك، ولما وصل إلى البناية رأى في ساحتها إلهتين مختلفتين، إحداهما على جانب عظيم من الجمال والرونق، كانت مستلقاة بين الأزهار، يحيط بها الحب اللعوب والظرف المغوي، وكأنها ما تزال سكرى من اللذة.
وكان على مقربة منها ثلاثة مساعدين، تبدو عليهم مظاهر الجفاف والهزال والإصفرار والخور، فسأل الملك مرشده الأمين قائلا: من تكون هذه العروس البالغة هذا المبلغ من الرقة والجمال؟ وما شأن هؤلاء الثلاثة المقيتين؟
فأجابه المرشد: أتجهل من هي هذه العروس الحسناء يا أميري؟
إنها الشهوة، معبودة كل من في بلاطك، ومن في المدينة والريف، أما هؤلاء الثلاثة المقيتون الذين يمشون دائما وراء سيدتهم، فهم المقت والسأم والندم، الأشباح البشعة، أبناء اللذة القدماء.
فحزن الملك المصري لدى سماعه هذه الحقيقة، وسأل مرشده قائلا: وهذه الإلهة الأخرى، من تكون؟ فإني أراها دون هذه سهولة ورقة، ولكن سيماءها النبيلة وصفاءها الرصين تعجبني هي كذلك، أرى إلى جانبها صولجانا من الذهب وسيفا وميزانا، وفي يدها صحائف تصرفها عما حولها، وأرى هيكلا جميلا ينفتح لدى صوتها متألقا نورا وبهاء، وعلى واجهة الرواق العظيم أقرأ هاتين الكلمتين: إلى الخلود! أبوسعي الدخول إلى هذا الهيكل؟
فأجاب الملاك: الأمر شاق، فكثيرون حاولوا الدخول إليه ثم عدلوا قانطين، فهذه الحسناء التي تبدو لك صلبة قاسية قد تلتهب أحيانا، وإذا كانت الشهوة أشد عذوبة وإحساسا وأكثر فتونا فهذه أعرف بالحب، ولكن من يريد أن يحل في نظرها محلا موفور الكرامة، يجب عليه أن يتصف بروح عادل وقلب نقي وفي، إنها الحكمة، وهذا الهيكل اللألاء الذي انفتح الآن هو هيكل المجد. ألا فاختر بين هاتين الإلهتين؛ إذ لا تستطيع أن تكون كلتيهما معا.
فقال الملك الشاب: لقد تم اختياري، ولغيري أن يرغب في حب الاثنتين معا، فبوسع إحداهما أن تسعدني هنيهة من الزمن، أما الأخرى فتستطيع بي أن تسعد العالم.
ثم طبع على الأولى قبلتين وهو ماض، ولكنه وهب قلبه للثانية.
Unknown page