وقال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية الحرانى قدس الله روحه ونور ضريحه بمنه وكرمه الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما فصل فى ( المظالم المشتركة ) التى تطلب من الشركاء مثل المشتركين فى قرية أو مدينة إذا طلب منهم شيء يؤخذ على أموالهم أو رؤوسهم مثل الكلف السلطانية التى توضع عليهم كلهم إما على عدد رؤوسهم أو عدد دوابهم أو عدد أشجارهم أو على قدر أموالهم كما يؤخذ منهم أكثر من الزكوات الواجبة بالشرع أو أكثر من الخراج الواجب بالشرع أو تؤخذ منهم الكلف التى أحدثت فى غير الأجناس الشرعية كما يوضع على المتبايعين للطعام والثياب والدواب والفاكهة وغير ذلك يؤخذ منهم إذا باعوا ويؤخذ ذلك تارة من البائعين وتارة من المشترين وإن كان قد قيل أن بعض ذلك وضع بتأويل وجوب الجهاد عليهم بأموالهم وإحتياج الجهاد إلى تلك الأموال كما ذكره صاحب ( غياث الأمم ) وغيره مع ما دخل فى ذلك من الظلم الذى لا مساغ له عند العلماء
ومثل الجبايات التى يجبيها بعض الملوك من أهل بلده كل مدة ويقول أنها مساعدة له على ما يريد ومثل ما يطلبه الولاة أحيانا من غير أن يكون راتبا إما لكونهم جيشا قادمين يجمعون ما يجمعونه لجيشهم وإما لكونهم يجمعون لبعض العوارض كقدوم السلطان أو حدوث ولد له ونحو ذلك وإما أن ترمى عليهم سلع تباع منهم بأكثر من أثمانها وتسمى ( الحطائط ومثل القافلة الذين يسيرون حجاجا أو تجارا أو غير ذلك فيطلب منهم على عدد رؤوسهم أو دوابهم أو قدر أموالهم أو يطلب مطلقا منهم كلهم سواء كان الطالب ذا السلطان فى بعض المدائن والقرى كالذين يقعدون على الجسور وأبواب المدائن فيأخذون ما يأخذونه أو كان الآخذون قطاع طريق كالأعراب والأكراد والترك الذين يأخذون مكوسا من أبناء السبيل ولا يمكنونهم من العبور حتى يعطوهم ما يطلبون
Page 338
فهؤلاء المكرهون على أداء هذه الأموال عليهم لزوم العدل فيما يطلب منهم وليس لبعضهم أن يظلم بعضا فيما يطلب منهم بل عليهم إلتزام العدل فيما يؤخذ منهم بغير حق كما عليهم إلتزام العدل فيما يؤخذ منهم بحق فإن هذه الكلف التى أخذت منهم بسبب نفوسهم وأموالهم هي بمنزلة غيرها بالنسبة إليهم وإنما يختلف حالها بالنسبة إلى الأخذ فقد يكون أخذا بحق وقد يكون أخذا بباطل
وأما المطالبون بها فهذه كلف تؤخذ منهم بسبب نفوسهم وأموالهم فليس لبعضهم أن يظلم بعضا فى ذلك بل العدل واجب لكل أحد على كل أحد فى جميع الأحوال والظلم لا يباح شيء منه بحال حتى أن الله تعالى قد أو جب على المؤمنين أن يعدلوا على الكفار فى قوله تعالى
ﵟكونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوىﵞ
والمؤمنون كانوا يعادون الكفار بأمر الله فقال تعالى لا يحملكم بغضكم للكفار على أن لا تعدلوا عليهم بل أعدلوا عليهم فإنه أقرب للتقوى
Page 339
وحينئذ فهؤلاء المشتركون ليس لبعضهم أن يفعل ما به ظلم غيره بل أما أن يؤدى قسطه فيكون عادلا وأما أن يؤدى زائدا على قسطه فيعين شركاءه بما أخذ منهم فيكون محسنا وليس له أن يمتنع عن أداء قسطه من ذلك المال إمتناعا يؤخذ به قسطه من سائر الشركاء فيتضاعف الظلم عليهم فإن المال إذا كان يؤخذ لا محالة وامتنع بجاه أو رشوة أو غيرهما كان قد ظلم من يؤخذ منه القسط الذى يخصه وليس هذا بمنزلة أن يدفع عن نفسه الظلم من غير ظلم لغيره فإن هذا جائز مثل أن يمتنع عن أداء ما يخصه فلا يؤخذ ذلك منه ولا من غيره
وهذا كالوظائف السلطانية التى توضع على القرى مثل أن يوضع عليهم عشرة آلاف درهم فيطلب من له جاه بأمرة أو مشيخة أو رشوة أو غير ذلك أن لا يؤخذ منه شيء وهم لابد لهم من أخذ جميع المال وإذا فعل ذلك أخذ ما يخصه من سائر الشركاء فيمتنع من أداء ماينوبه ويؤخذ من سائر الشركاء فإن هذا ظلم منه لشركائه لأن هذا لم يدفع الظلم عن نفسه إلا بظلم شركائه وهذا لا يجوز وليس له أن يقول أنا لم أظلمهم بل ظلمهم من أخذ منهم الحصتين لأنه يقال ( أولا ) هذا الطالب قد يكون مأمورا ممن فوقه أن يأخذ ذلك المال فلا يسقط عن بعضهم نصيبه إلا أخذه من نصيب ذلك الآخر فيكون أمره بأن لا يأخذ أمرا بالظلم
Page 340
( الثانى ) أنه لو فرض أنه الآمر الأعلى فعليه أن يعدل بينهم فيما يطلبه منهم وإن كان أصل الطلب ظلما فعليه أن يعدل فى هذا الظلم ولا يظلم فيه ظلما ثانيا فيبقى ظلما مكررا فإن الواحد منهم إذا كان قسطه مائة فطولب بمائتين كان قد ظلم ظلما مكررا بخلاف ما إذا أخذ من كل قسطه ولأن النفوس ترضى بالعدل بينها فى الحرمان وفيما يؤخذ منها ظلما ولا ترضى بأن يخص بعضها بالعطاء أو الإعفاء
ولهذا جاءت الشريعة بأن المريض له أن يوصى بثلث ماله لغير وارث ولا يخص الوارث بزيادة على حقه من ذلك الثلث وإن كان له أن يعطيه كله للأجنبى وكذلك فى عطية الأولاد هو مأمور ان يسوى بينهم فى العطاء أو الحرمان ولا يخص بعضهم بالإعطاء من غير سبب يوجب ذلك لحديث النعمان بن بشير وغيره
( الثالث ) انه اذا طلب من القاهر ان لا ياخذ منه وهو يعلم انه يضع قسطه على غيره فقد امره بما يعلم انه يظلم فيه غيره وليس للإنسان ان يطلب من غيره ما يظلم فيه غيره وان كان هو لم يأمره بالظلم كمن يولى شخصا ويأمره ان لا يظلم وهو يعلم انه يظلم فليس له ان يوليه وكذلك من وكل وكيلا وامره ان لا يظلم وهو يعلم أنه يظلم وكذلك من طلب من غيره ان يوفيه دينه من ماله الحلال وهو يعلم انه لا يوفيه الا مما ظلمه من الناس وكذلك هذا طلب منه أن يعفيه من الظلم وهو يعلم أنه لا يعفيه إلا بظلم غيره فليس له أن يطلب منه ذلك
Page 341
( الرابع ) أن هذا يفضي إلى أن الضعفاء الذين لا ناصر لهم يؤخذ منهم جميع ذلك المال والأقوياء لا يؤخذ منهم شيء من وظائف الأملاك مع أن أملاكهم أكثر وهذا يستلزم من الفساد والشر مالا يعلمه إلا الله تعالى كما هو الواقع ( الخامس ) أن المسلمين إذا احتاجوا إلى مال يجمعونه لدفع عدوهم وجب على القادرين الإشتراك فى ذلك وإن كان الكفار يأخذونه بغير حق فلأن يشتركوا فيما يأخذه الظلمة من المسلمين أولى وأحرى $ فصل
وعلى هذا فإذا تغيب بعض الشركاء أو إمتنع من الأداء فلم يؤخذ منه وأخذ من غيره حصته كان عليه أن يؤدى قدر نصيبه إلى من أدى عنه فى أظهر قولى العلماء كما يؤدى ما عليه من الحقوق الواجبة ويلزم بذلك ويعاقب على أدائه كما يعاقب على أداء سائر الحقوق الواجبة عليه كالعامل فى الزكاة إذا طلب من أحد الشريكين أكثر من الواجب وأخذه بتأويل فللمأخوذ منه أن يرجع على الآخر بقسطه وإن كان بغير تأويل فعلى قولين
Page 342
أظهرهما أن له أن يرجع أيضا كناظر الوقف وولى اليتيم والمضارب والشريك والوكيل وسائر من تصرف لغيره بولاية أو وكالة إذا طلب منه ما ينوب ذلك المال من الكلف مثل ما إذا أخذت منه الكلف السلطانية عن الأملاك أو أخذ من التجار فى الطرق والقرى ما ينوب الأموال التى معهم فإن لهم أن يؤدوا ذلك من نفس المال بل يجب عليهم إذا خافوا أن لم يؤدوه أن يؤخذ أكثر منه وإذا قدر أن المال صار غائبا فاقترضوا عليه وأدوا عنه أو أدوا من مال لهم عن مال الموكل والمولى عليه كان لهم الرجوع بقدر ذلك من ماله وعلى هذا عمل المسلمين فى جميع الأعصار والأمصار
ومن لم يقل بذلك فإنه يلزم قوله من الفساد مالا يعلمه إلا رب العباد فإن الكلف التى تؤخذ من الأموال على وجه الظلم كثيرة جدا فلو كان ما يؤديه المؤتمن على مال غيره عنه من تلك الكلف التى تؤخذ منه قهرا بغير حق تحسب عليه إذا لم يؤدها من غير مال المؤتمن لزم من ذلك ذهاب كثير من أموال الأمناء ولزم ان لا يدخل الامناء فى مثل ذلك لئلا تذهب اموالهم
وحينئذ يدخل فى ذلك الخونة الفجار الذين لا يتقون الله بل يأخذون من الأموال ما قدروا عليه ويدعون نقص المقبوض المستخرج أو زيادة المصروف المؤدى كما هو المعروف من حال كثير من المؤتمنين على الأموال السلطانية لكن هؤلاء قد يدخل فى بعض ما يفعلونه تأويل بخلاف الوكيل والشريك والمضارب وولى اليتيم وناظر الوقف ونحوهم
Page 343
وإذا كان كذلك فالمؤتمن على المال المشترك بينه وبين شريكه اذا كان يعتد له بما اخذ منه من هذه الكلف فما قبضه عمال الزكاة بإسم الزكاة أولى ان يعتد له به وان قبضوا فوق الواجب بلا تأويل لا سيما وهذا هو الواقع كثيرا أو غالبا فى هذه الأزمان فإن عمال الزكاة يأخذون من زكوات الماشية اكثر من الواجب بكثير وكذلك من زكوات التجارات ويأخذون من كل من كان المال بيده سواء كان مالكا أو وكيلا أو شريكا أومضاربا أو غيرهم فلو لم يعتد للامناء بما أخذ منهم ظلما لزم من الفساد ما لا يحصيه الا رب العباد
وأيضا فذلك الاعطاء قد يكون واجبا للمصلحة فإنه لو لم يؤده لأخذ الظلمة اكثر منه ومعلوم ان المؤتمن على مال غيره اذا لم يمكنه دفع الظلم الكثير الا باداء بعض المطلوب وجب ذلك عليه فإن حفظ المال واجب فاذا لم يمكن الا بذلك وجب فما لا يتم الواجب الا به فهو واجب
Page 344
وايضا فالمنازع يسلم انهم لو اكرهوا المؤتمن على أخذ غير المال لم يكن ضامنا وان العامل الظالم اذا اخذ من المال المشترك اكثر من الواجب لم يكن ضامنا وانما وقعت لهم الشبهة اذا اكره المؤدي على الأداء عنه كيف كان فأدى عنه مما اقترض عليه أو من مال انسان ليرجع عليه فيقال لهم أي فرق بين ان يكرهه على الأداء عنه من مال نفسه أو من مال الغائب ومعلوم ان إلزامه بالأداء عن الغائب والممتنع اعظم ضررا عليه من الأداء من عين مال الغائب والممتنع فإن أداء ما يطلب من الغائب اهون عليه من اداء ذلك من مال نفسه فإذا عذر فيما يؤديه من مال الغائب لكونه مكرها على الاداء فلأن يعذر اذا اكره على الأداء عنه اولى واحرى
فإن قال المنازع لأن المؤدى هناك عين مال المكره المؤدي فهو المظلوم فيقال لهم بل كلاهما مظلوم هذا مظلوم بالأداء عن ذاك وذاك مظلوم بطلب ماله فكيف يحمل كله على المؤدى والمقصود بالقصد الأول هو طلب المال من المؤدى عنه وانما الأعمال بالنيات والطالب الظالم انما قصده اخذ مال ذلك لا مال هذا وانما طلب من هذا الأداء عن ذاك
وأيضا فهذا المكره على الأداء عن الغائب مظلوم محض بسبب نفسه وماله وذاك مظلوم بسبب ماله فكيف يجعل مال هذا وقاية لمال ذاك لظلم هذا الظالم الذى اكرهه أو يكون صاحب المال القليل قد اخذ منه أضعاف ما يخصه وصاحب المال الكثير لم يؤخذ منه شيء
Page 345
وغاية هذا أن يشبه بغصب المشاع فإن الغاصب اذا قبض من العين المشتركة نصيب أحد الشريكين كان ذلك من مال ذلك الشريك فى أظهر قولى العلماء وهو ظاهر مذهب الشافعى وأحمد وغيرهما لأنه انما قصد أخذ مال أحد الشريكين ولو أقر أحد الابنين بأخ ثالث وكذبه أخوه لزم المقر أن يدفع إلى المقر به ما فضل عن حقه وهو السدس فى مذهب مالك وأحمد بن حنبل وكذلك ظاهر مذهب الشافعى وهو قول جمهور السلف جعلوا ما غصبه الأخ المنكر من مال المقر به خاصة لأنه لم يقصد أن يأخذ شيئا من حق المقر
ولكن أبو حنيفة قال فى غصب المشاع أن ما قبضه الغاصب يكون من الشريكين جميعا باعتبار صورة القبض من غير إعتبار نية وكذلك قال فى الأخ المنكر إن ما غصبه يكون منهما جميعا فيدفع المقر إلى المقر به نصف ما فى يده وهو الربع ويكون النصف الذى غصبه المنكر منهما جميعا وهذا قول فى مذهب أحمد والشافعى وقول الجمهور هو الصواب لأجل النية وكذلك هنا إنما قبض الظالم عن ذلك المطلوب لم يقصد أخذ مال الدافع
Page 346
فإن قيل فلو غلط الظالم مثل أن يقصد القطاع أخذ مال شخص فيأخذون غيره ظنا أنه الأول فهل يضمن الأول مال هذا الذى ظنوه الأول قيل باب الغلط فيه تفصيل ليس هذا موضعه ولكن الفرق بينهما معلوم وليس هذا مثل هذا فإن الظالم الغالط الذى أخذ مال هذا لم يأخذه عن غيره ولكنه ظنه مال زيد فظهر أنه مال عمرو فقد قصد أن يأخذ مال زيد فأخذ مال عمرو كمن طلب قتل معصوم فقتل معصوما آخر ظنا منه أنه الأول
وهذا بخلاف من قصد مال زيد بعينه وأن يأخذ من الشركاء ما يقسم بينهم بالعدل وأخذ من بعضهم عن بعض فإن هذا لم يغلط بل فعل ما أراده قصد أخذ مال شخص وطلب المال من المستولى على ماله من شريك أو وكيل ونحو ذلك ليؤديه عنه أو طلبوا من أحد الشركاء مالا عن الأمور المشتركة تؤخذ من الشركاء كلهم لم يغلطوا فى ظنهم فإذا كانوا إنما قصدوا الأخذ من واحد بل قصدوا العدل بينه وبين شركائه ولكن إنما قدروا على الأخذ من شريكه فكيف يظلم هذا الشريك مرتين
Page 347
ونظير هذا أن يحتاج ولى بيت المال إلى اعطاء ظالم لدفع شره عن المسلمين كإعطاء المؤلفة قلوبهم لدفع شرهم أو اعطاء الكفار إذا احتاج والعياذ بالله إلى ذلك ولم يكن فى بيت المال شيء واستسلف من الناس أموالا أداها فهل يقول عاقل إن تلك الأموال تذهب من ضمان من أخذت منه ولا يرجع على بيت المال بشيء لأن المقبوض كان عين أموالهم لا عين أموال بيت المال وقد كان النبي وأصحابه يعطون ما يعطونه تارة من عين المال وتارة مما يستسلفونه فكان النبى صلى الله عليه وسلم يستسلف على الصدقة وعلى الفيء فيصرفه فى المصارف الشرعية من إعطاء المؤلفة قلوبهم وغيرهم وكان فى الآخذين من لا يحل له الأخذ بل كان النبى يقول ( أنى لأعطى أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا ( قالوا يا رسول الله فلم تعطيهم قال ( يأبون إلا أن يسألونى ويأبى الله لى البخل (
ولا يقول عاقل ان ذلك المال يذهب من عين من اقترض منه بل هو بمنزلة ما إذا كان عين مال الصدقة والفىء لأن المعطى جاز له الإعطاء وإن لم يجز للآخذ الأخذ هذا وهو يعطيه باختياره فكيف بمن أكره على الإعطاء وجاز له الإعطاء أو وجب عليه ولا يقال ولي الأمر هنا اقترض أموال الناس منهم لأنه يقال إنما إقترضها ليدفعها إلى ذلك الظالم الذى طلب أخذ أموال المسلمين فأدى عنهم ما إقترضه ليدفع به عنهم الضرر وعليه أن يوفى ذلك من أموالهم المشتركة مال الصدقات والفىء ولا يقال لا يحل له صرف أموالهم فإن الذى أخذه ذلك الظالم كان مال بعضهم بل أعطاء هذا القليل لحفظ نفوسهم وأموالهم واجب
Page 348
وإذا كان الإعطاء واجبا لدفع ضرر هو أعظم منه فمذهب مالك وأحمد بن حنبل المشهور عنه وغيرهما إن كل من أدى عن غيره واجبا فله أن يرجع به عليه إذا لم يكن متبرعا بذلك وإن أداه بغير أذنه مثل من قضى دين غيره بغير اذنه سواء كان قد ضمنه بغير أذنه وأداه بغير إذنه أو أداه عنه بلا ضمان وكذلك من افتك أسيرا من الأسر بغير اذنه يرجع عليه بما أفتكه به وكذلك من أدى عن غيره نفقة واجبة عليه مثل أن ينفق على إبنه أو زوجته أو بهائمه لا سيما إذا كان للمنفق فيها حق مثل أن يكون مرتهنا أو مستأجرا أو كان مؤتمنا عليها مثل المودع ومثل راد العبد الآبق ومثل إنفاق أحد الشريكين على البهائم المشتركة وقد دل على هذا الأصل قوله تعالى
ﵟفإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهنﵞ
فأمر بإيتاء الأجر بمجرد إرضاعهن ولم يشترط عقد إستئجار ولا أذن الأب لها فى أن ترضع بالأجر بل لما كان إرضاع الطفل واجبا على أبيه فإن أرضعته المرأة إستحقت الأجر بمجرد إرضاعها وهذا فى الأم المطلقة قول أكثر الفقهاء يقولون أنها تستحق الأجر بمجرد الإرضاع وأبو حنيفة يقول بذلك فى الأم وإن كان لا يقول برجوع المؤدى للدين وخالفه صاحباه
والمفرق يقول الأم أحق برضاع ابنها من غيرها حتى لو طلبت الإرضاع بالأجر لقدمت على المتبرعة قيل فكذلك من له حق فى بهائم الغير كالمستأجر والمرتهن يستحق مطالبة المالك بالنفقة على بهائمه فذلك أحق من الأم بالإرضاع
Page 349
وأيضا فلا يلزم من كونه يستحق ذلك بعقد المعاوضة أن يستحقه بدون عقد إلا أن يكون الإرضاع واجبا على الأب وإذا كان إنما أداه لكونه واجبا عليه فهكذا جميع الواجبات عليه أن يؤديها إلى من أدى عنه وأحسن إليه بالأداء عنه وهذا إذا كان المعطى مختارا فكيف إذا أكره على أداء ما يجب عليه فإن الظالم القادر إذا لم يعطه المطلوب الذى طلبه منه ضره ضررا عظيما أما بعقوبة بدنية واما بأخذ أكثر منه وحينئذ يجب عليه دفع ما يندفع به أعظم الضررين بالتزام أدناهما فلو أدى الغير عنه بغير إكراه لكان له أن يرجع عليه بما أداه عنه فكيف إذا أكره على الأداء عنه
Page 350
وأيضا فإذا كان الطلب من الشركاء كلهم فقد تقدم أنه ليس لبعضهم أن يمتنع مما عليه امتناعا يستلزم تكثير الظلم على غيره وحينئذ فيكون الأداء واجبا على جميع الشركاء كل يؤدى قسطه الذى ينوبه إذا قسم المطلوب بينهم بالعدل ومن أدى عن غيره قسطه بغير إكراه كان له أن يرجع به عليه وكان محسنا إليه فى الأداء عنه ومباشرة الظالمين دونه فإن المباشر يحصل له ضرر فى نفسه وماله والغالب إنما يحصل له الضرر فى ماله فقط فإذا أدى عنه لئلا يحضر كان محسنا إليه فى ذلك فيلزمه أن يعطيه ما أداه عنه كما يوفى المقرض المحسن فإن جزاء القرض الوفاء والحمد ومن غاب ولم يؤد حتى أدى عنه الحاضرون لزمه أن يعطيهم قدر ما أدوه عنه ويلزم بذلك ويعاقب أن امتنع عن أدائه ويطيب لمن أدى عنه أن يأخذ نظير ذلك من ماله كما يأخذ المقرض من المقترض نظير ما أقرضه ومن قبض ذلك من ذلك المؤدى عنه وأداه إلى هذا المؤدى جاز له أخذه سواء كان الملزم له بالأداء هو الظالم الأول أو غيره
ولهذا له أن يدعي بما أداه عنه عند حكام العدل وعليهم أن يحكموا على هذا بأن يعطيه ما أداه عنه كما يحكم عليه بأداء بدل القرض ولا شبهة على الآخذ فى أخذ بدل ماله ولا يقال إنه أخذ أموال الناس فإنه إنما أخذ منهم ما أداه عنهم وبدل ما أقرضهم إياه من مال وبدل ما وجب عليهم أداؤه فإنه ليس لأحد الشركاء أن يمتنع عن أداء ما ينوبه إذا علم أن ذلك يؤخذ من سائر الشركاء كما تقدم وإذا لم يكن له هذا الإمتناع كان الأداء واجبا عليه فمن أدى عنه ناويا للرجوع فله الرجوع إذا أداه طوعا لإحسانه إليه بالأداء عنه فكيف إذا أكره على الأداء عنه ولو لم يكن الأداء واجبا عليه بل قد أكره ذلك الرجل على الأداء عنه رجع عليه فإنه بسببه أكره ذاك وأخذ ماله وهذا كمن صودر على مال فأكره أقاربه أو جيرانه أو أصدقاؤه أو شركاؤه على أن يؤدوا عنه ويرجعوا عليه فلهم الرجوع فإن أموالهم إنما أخذت بسببه وبسبب الدفع عنه
Page 351
فإن الآخذ منه إما أن يأخذ لإعتقاده أنه ظالم كما يصادر ولاة الأمور بعض نوابهم ويقولون أنهم أخذوا من الأموال أكثر مما صودروا عليه وأما أن يكون صاحب مال كثير فيطلب منه الطالب ما يقول أنه ينوب ماله فأقاربه وجيرانه وأصدقاؤه وغيرهم ممن أخذ ماله بسبب مال هذا أو بسبب أعماله إنما ظلموا لأجله وأخذت أموالهم لأجل ماله وصيانة لماله والطالب إنما مقصوده ماله لا أموال أولئك وشبهته وإرادته إنما هي متعلقة بماله دون أموالهم فكيف تذهب أموالهم هدرا من غير سبب منهم ويبقى مال هذا محفوظا وهو الذى طولبوا لأجله ولو لم يستحق هؤلاء المؤدون عن غيرهم الرجوع لحصل فساد كثير فى النفوس والأموال فإن النفوس والأموال قد يعتريها من الضرر والفساد مالا يندفع إلا بأداء مال عنهم فلو علم المؤدون أنهم لا يستحقون الرجوع بما أدوه إلا إذا أذن ذلك الشخص لم يؤدوا وهو قد لا يأذن إما لتغيبه أو لحبسه أو غير ذلك وإما لظلمه نفسه وتماديه على ما يضر نفسه وماله سفها منه وظلما حرمه الشارع عليه
ومعلوم أن الناس تحت أمر الله ورسوله فليس لأحد أن يضر نفسه وماله ضررا نهاه الله عنه ومن دفع ذلك الضرر العظيم عنه بما هو أخف منه فقد أحسن إليه وفى فطر الناس جميعهم أن من لم يقابل الإحسان بالإحسان فهو ظالم معتد وما عده المسلمون ظلما فهو ظلم كما قال بن مسعود رضى الله عنه ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوه قبيحا فهو عند الله قبيح
Page 352
وأصل هذا اعتبار المقاصد والنيات فى التصرفات وهذا الأصل قد قرر وبسط فى كتاب ( بيان الدليل على بطلان التحليل ( وقد قال النبى فى بن اللتبية العامل الذي قبل الهدايا لما إستعمله على الصدقات فأهدى إليه هدايا فلما رجع حاسبه النبى على ما أخذ وأعطى وهو الذى يسميه أهل الديوان الإستيفاء كما يحاسب الإنسان وكيله وشريكه على مقبوضه ومصروفه وهو الذى يسميه أهل الديوان المستخرج والمصروف فقال إبن اللتبية هذا لكم وهذا أهدى لى فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدى لى أفلا قعد فى بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا والذى نفسى بيده ما من رجل نستعمله على العمل فيغل منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه إلى السماء ثم قال ألا هل بلغت ( أو كما قال والحديث متفق على صحته
Page 353
فلما كان المعطون المهدون إنما أعطوه وأهدوا إليه لأجل ولايته جعل ذلك من جملة المال المستحق لأهل الصدقات لأنه بسبب أموالهم قبض ولم يخص به العامل الذى قبضه فكذلك ما قبض بسبب اموال بعض الناس فعنها يحسب وهو من توابعها فكما أنه أعطى لأجلها فهو مغنم ونماء لها لا لمن أخذه فما أخذ لأجلها فهو مغرم ونقص منها لا على من أعطاه
وكذلك من خلص مال غيره من التلف بما أداه عنه يرجع به عليه مثل من خلص مالا من قطاع أو عسكر ظالم أو متول ظالم ولم يخلصه إلا بما أدى عنه فإنه يرجع بذلك وهو محسن إليه بذلك وإن لم يكن مؤتمنا على ذلك المال ولا مكرها على الأداء عنه فإنه محسن إليه بذلك وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان فإذا خلص عشرة آلاف درهم بألف أداها عنه كان من المحسنين فإذا أعطاه الألف كان قد أعطاه بدل قرضه وبقى عمله وسعيه فى تخليص المال إحسانا إليه لم يجزه به هذا أصوب قولى العلماء
ومن جعله فى مثل هذا متبرعا ولم يعطه شيئا فقد قال منكرا من القول وزورا وقد قابل الإحسان بالإساءة
Page 354
ومن قال هذا هو الشرع الذى بعث الله به رسوله فقد قال على الله غير الحق لكنه قول بعض العلماء وقد خالفهم آخرون ونسبة مثل هذه الأقوال إلى الشرع توجب سوء ظن كثير من الناس فى الشرع وفرارهم منه والقدح فى أصحابه فإن من العلماء من قال قولا برأيه وخالفه فيه آخرون وليس معه شرع منزل من عند الله بل الأدلة الشرعية قد تدل على نقيض قوله وقد يتفق أن من يحكم بذلك يزيد ذلك ظلما بجهله وظلمه ويتفق أن كل أهل ظلم وشر يزيدون الشر شرا وينسبون هذا الظلم كله إلى شرع من نزهه الله عن الظلم وبعثه بالعدل والحكمة والرحمة وجعل العدل المحض الذى لا ظلم فيه هو شرعه
ولهذا كان العدل وشرعه متلازمين قال الله تعالى
ﵟإن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدلﵞ
وقال تعالى
ﵟفإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطينﵞ
وقال تعالى
ﵟفاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحقﵞ
فما أنزل عليه والقسط متلازمان فليس فيما أنزل الله عليه ظلم قط بل قد قال تعالى
ﵟلقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيزﵞ
والله أعلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل
Page 355