لم يصدق العمدة أذنيه، فسألها مرة أخرى: لماذا جئت الآن يا زينب؟
همست كأنما تكلم نفسها: أمر الله.
ابتسم العمدة ونهض من سريره وسار إلى الحمام. غسل وجهه ودعك أسنانه بالفرشاة والمعجون، ثم نظر إلى وجهه في المرآة. ابتسم مرة أخرى وكاد أن يضحك وهمس لنفسه: «عفريت ابن عفريتة، الله يلعنك يا حاج إسماعيل!»
خرج من الحمام وبحث عن ساعته حتى وجدها على إحدى المناضد الصغيرة. نظر في الساعة، وجدها السادسة، ابتسم وهو يهمس لنفسه: «لم يحدث أن أتت امرأة إلي في مثل هذا الوقت المبكر من الصباح، ولا بد أن أشرب أولا فنجانا من الشاي لأفيق قليلا.»
كانت زينب لا تزال واقفة حيث تركها، فاقترب منها وقال لها كأنما يكلم طفلة صغيرة: اسمعي يا زينب، أريد فنجانا من الشاي. أتعرفين كيف تعملين الشاي؟
قالت بحماس من هي مستعدة لعمل أي شيء: نعم يا سيدي.
وقال العمدة: تعالي معي لأدلك على طريق المطبخ، وعليك أن تصنعي لي الشاي حتى آخذ حماما.
شهقت زينب وهي ترى الأحواض البيضاء وصنابير المياه الفضية اللامعة، والجدران الملونة، والستائر والموقد الذي يشتعل وحده، وغلاية الماء التي تصفر حين يغلي الماء، والفناجين ذات النقوش والألوان، وملاعق الفضة، وكل شيء من حولها كانت تراه لأول مرة، فكأنما هي انتقلت إلى العالم الآخر، ولم تعد في الدنيا التي تعرفها، وإنما أصبحت الآن في ملكوت الله سبحانه وتعالى، وارتجفت أصابعها وهي تمسك الأشياء، وقلبها يخفق، وصدرها يعلو ويهبط، وساقاها لا تزال فوقهما الرعدة.
انزلق فنجان الشاي من بين أصابعها وسقط على الأرض، فانطلقت من بين شفتيها شهقة وضربت كفها فوق صدرها: «يا خبر!» والتصقت بالجدار تحتمي فيه شاخصة بعينيها المذعورتين إلى الفنجان الثمين الذي أصبح قطعا صغيرة بلورية فوق البلاط الأبيض اللامع. سمع العمدة وهو يقف في الحمام تحت رذاذ الماء الدافئ صوت ارتطام الفنجان بالأرض ثم الشهقة العالية، فابتسم وهو يدلك صدره وبطنه بالصابون المعطر هامسا لنفسه: «كم تثيرني مثل هؤلاء البنات الساذجات! وكم هو لذيذ أن أغزو جسد العذراء منهن، فكأنما يقطف الواحدة زهرة يانعة تتفتح لأول مرة.» «وكم أكره هؤلاء النساء القاهريات المتعلمات المتحذلقات، من أمثال زوجتي التي انكشف وجهها بغير حياء ولم يعد يخجلها شيء ولم يعد يثيرها شيء، ولم يعد جسدها البارد يرتجف تحت أية لمسة أو ضغطة أو حتى عضة!»
خرج من الحمام مرتديا منامة حريرية وردية، وسار إلى المطبخ فرأى زينب لا تزال واقفة ملتصقة بالجدار، شفتاها منفرجتان بالشهقة، وكفها فوق صدرها، وعيناها شاخصتان نحو القطع البلورية الصغيرة فوق الأرض، التي كانت منذ لحظات فنجانا ثمينا لا تستطيع أن تقدر ثمنه بالقروش أو الجنيهات.
Unknown page