جمال يا جمال نفيسة وعلوان ...
اتسعت عيناه بالدهشة كأنه غير مصدق، والتفت ناحية أمه التي كانت تقف إلى جواره في الشرفة وتساءل مشدوها: أصحيح أنه علوان يا ماما؟
وردت أمه بصوتها العصبي الضجر: أتسألني أنا؟ اسأل أباك العمدة. •••
اليوم كان جمعة، والقرص الملتهب في وسط السماء، فوق رأس كفراوي وهو واقف في الحقل، عيناه حمراوان بلون الشمس، والعرق يتصبب من رأسه وعنقه وصدره وبطنه وفخذيه، يشعر به لزجا ساخنا هابطا بين فخذيه، يبلل ساقيه وقدميه الحافيتين المشققتين، ويمد يده من تحت جلبابه يتحسسه، يظن أنه يبول على نفسه، ويكاد لا يعرف عرقه من بوله، ولا يعرف ما إذا كانت عضلات جسده مرتخية أومسحت فمها في عنقهم متقلصة، ساكنة أو متحركة. كل ما يحسه هو أنه فقد السيطرة على ذراعيه وساقيه، وأن جسده أصبح كالعضلة المنفصلة عنه، يتقلص ويرتخي وحده، ويتحرك ويسكن وهو واقف يراقبه، ويكاد لا يصدق ما يراه، ويظن أن روحه انفصلت عن جسده أو أن جسده ركبته روح أخرى ليست هي كفراوي.
وحينما يرى قدميه الحافيتين المشققتين تسيران ببطء خارج الحقل يندهش كيف تسير قدماه وحدهما. يحاول لحظة أن يستجمع قواه ليوقفهما وقد يظن أنه أوقفهما فعلا، لكنه يراهما تسيران ببطء خارج الحقل وخارج إرادته نحو المكان الوحيد الذي لا يصل إليه قرص الشمس في ذلك الوقت من الظهيرة، وهو الزريبة.
لم تكن زريبة بمعنى الكلمة، وإنما كوخ صغير من البوص والنخيل وأعواد الذرة الجافة دهكت جميعها بالطين وأصبحت أربعة جدران وسقفا، ترقد فيها الجاموسة نهارا في الصيف، ويبيت فيها كفراوي في ليالي الشتاء.
كانت الجاموسة كعادتها راقدة فوق بطنها من شدة الحرارة، عيناها الواسعتان مفتوحتان شاخصتان إلى الجدار الطيني الأسود، وفكاها الكبيران يتحركان ببطء كأنما تجتر، ورغوة بيضاء عند زاويتي فمها الأسود الكبير تروح وتجيء مع حركة أنفاسها.
سقط جسد كفراوي إلى جوار جسدها، وظلت عيناه مفتوحتين صامتين مثل عينيها. حاول أن يشد عضلات جفنيه ليغلقهما وينام، وظن لحظة أنه أغلقهما، لكنهما ظلتا مفتوحتين شاخصتين إلى الجدار الطيني الأسود. رمقته الجاموسة بعينيها الواسعتين، فوقهما سحابة شفافة تترقرق كأنما هي طبقة من الدموع، ومدت رأسها إلى جوار رأسه ومسحت فمها في عنقه كأم تلثم ابنها، أو تهمس له بشيء: «ما لك يا كفراوي؟» وأسند كفراوي رأسه إلى رأسها ومسح عينيه المبللتين في وجهها، ثم قرب شفتيه الجافتين من أذنها: «آه يا عزيزة، نفيسة غابت، نفيسة راحت يا عزيزة!»
كفراوي كان يكلم الجاموسة، والجاموسة كانت ترد عليه، وقد عرف كيف يفهم لغتها. منذ فتح عينيه على الحياة والجاموسة أمام عينيه، في الحقل وفي الدار، وحينما ينام بالليل أو بالنهار فهو يرقد إلى جوارها. قبل أن يتعلم المشي أو الكلام، كان يراها تنظر إليه بعينيها الواسعتين الصامتتين وهو يبكي وحده في الظلام.
وحينما بدأ يزحف فوق بطنه على الأرض، أصبح يزحف إليها، فتمسح فمها الناعم بوجهه وتحس شفتيه الجافتين الظامئتين فترقد على بطنها إلى جواره وتزحف نحوه مقربة ضرعها من رأسه. يرفع كفراوي رأسه فيرى الضرع الناعم المنتفخ والحلمة السوداء تتدلى منه بالقرب من أنفه، ويشم رائحة اللبن، فيمد عنقه ويقبض بأسنانه على الحلمة فإذا باللبن الدافئ ينساب في فمه.
Unknown page