Mawsucat Misr Qadima
موسوعة مصر القديمة (الجزء الأول): في عصرما قبل التاريخ إلى نهاية العصرالإهناسي
Genres
أما الآلة التي يتميز بها هذا العصر أكثر من غيرها، حتى إن اسمها أصبح أحيانا يطلق على هذا العصر فهي الفأس المصقولة، وهي قطعة من الظران على شكل الكلى المستطيلة وهي منحنية من أحد طرفيها لتصير قاطعة، وقد كان يركب فيها مقبض، ولذلك كانت تستعمل كفأس أو قدوم.
رءوس سهام من جبانة «العرابة».
وبجانب الظران كان يستعمل كذلك العظم في عمل أسنة الخطاطيف، ولعمل آلات كالمنحت أو المنقش والإبر لشغل الجلود، ومن صناعة هذا العصر كذلك النسيج وعمل الحصر والفخار الذي لم يعثر على أي نوع منه قبل هذا العهد، ومن المدهش أنه انتشر في هذا العصر بسرعة، وأصبح استعماله منتشرا انتشارا عاما، ففي مصر السفلى عثر في مرمدة بني سلامة على أقدم فخار عمله الإنسان دون استعمال أية آلة في صنعه، وأول نوع ظهر لنا كان خشن الصنع وليس عليه أي نوع من الزخرفة، اللهم إلا في القليل النادر، فإنه كان يشاهد على حافة الإناء أو مقبضه شريط محفور بالأصبع، وبجانب هذا الفخار ظهر نوع آخر دقيق الصنع لونه أحيانا أحمر وأحيانا أسود، وكان يصقل بكل اعتناء قبل حرقه، وأشكال هذا الفخار متعددة وتشمل كل أنواع الأطباق والأكواب والجرار والأباريق، ويلاحظ أن بعض هذه الأواني لها أزرار بارزة أو ثقوب في جوانبها، وذلك ليعلق فيها خيط تحمل به.
أما في الوجه القبلي فقط ظهر في بلدة «دير طاسا» نوع من الفخار أسود لم يحرق حرقا محكما، غير أنه يمتاز بأنه أول نوع من الفخار ظهرت عليه زخرفة مرسومة بالمعنى الحقيقي، وهذه الرسوم كانت هندسية في شكلها، وقد صنعت بآلات وملئت تجاويفها بمادة بيضاء بمثابة ترصيع، وأظهر هذه الأنواع التي وجدت في «دير طاسا » إناء قعره مستو ومفرطح على شكل السوسنة.
فخار عثر عليه في الفيوم يمثل العصر الحجري الحديث.
مجموعة فخار من العصر الحجري الحديث.
بدأ الإنسان في هذا العصر يعيش عيشة الرعاة والفلاحين، وأخذ يسكن القرى بعد أن كان جائلا من مكان لآخر، وذلك يرجع لتغير حالة الجو في أفريقيا الشمالية، وقد نشأ عن هذا الجفاف المتوالي في هذه الجهات، بسبب قلة الأمطار أن اختفت النباتات والأشجار التي كانت تنبت على الهضاب المترامية الأطراف تدريجا، وكذلك أصبحت مناطق الصيد قليلة، ومن أجل ذلك أخذت القبائل في الأقاليم التي كانت تسكن فيها أو تجول في أنحائها تتنبه إلى خطر الجوع من قلة حيوان الصيد، فبدأت تربي الحيوانات القليلة الخطر كالثور والخروف والماعز والخنزير، لتكون ذخيرة لهم من اللحوم الحية، وكذلك أخذت القبائل تزرع الحبوب المغذية وبخاصة الشعير.
ولما ازداد جفاف تلك الهضبة الشاسعة، ولم تبق منابع ماء في صحراء العرب أو في صحراء لوبيا، أخذ أفراد القبائل النيوليتية يجتمعون في قرى في وسط أراضيهم التي يتعيشون منها برعي الماشية أو بالزراعة في وادي النيل، وكانوا لا يزالون يحترفون صيد البر والبحر وذلك اقتصادا لمواشيهم الأليفة من جهة، وليقضوا على الحيوان البري المفترس، وعلى الحيوانات المائية الضارة مثل جاموس البحر الذي كان يعد خطرا يهدد حياتهم على الدوام من جهة أخرى، غير أن الصيد لم يكن عندهم من الأمور الحيوية بل كان شيئا ثانويا، والواقع أن هذه القبائل أصبحت أهل فلاحة بالمعنى الحقيقي، وكانت قرى العصر النيوليتي مؤلفة من عدد من العشش المنفصل بعضها عن بعض، ويحتمل أنها كانت مسورة بسياج مؤلف من الأوتاد حماية لها، وقد عثر على قرى من هذا العصر في مرمدة بني سلامة، وهي على نوعين مختلفين تمام الاختلاف، فبعضها يشبه عشش الفلاحين الحاليين التي تقام في وسط المزارع وقت الحصاد، وكانت العشة تتركب من جدران مصنوعة من الغاب يحفظها من التداعي أوتاد مثبتة في الأرض، وإذا كانت العشة مبنية من جهاتها الأربع كانت تأخذ في الغالب شكلا بيضيا منظما بعض الشيء، وأحيانا تكون هذه العشش على شكل ستارة مقوسة المنظر محكمة القفل من الجهة التي يهب منها الريح، وبخاصة الجهة الجنوبية الغربية أو الجهة الشمالية، ولا شك في أن وجود مواقد في هذه العشش وكذلك وجود أوان مصنوعة من الفخار يدل دلالة واضحة على أنها كانت تستعمل سكنا للإنسان. وقد عثر بالقرب من هذه العشش على أسوار بيضية الشكل لا تزيد مساحتها عن متر في نصف متر تقريبا، ويحيط بها جدار لا يزيد ارتفاعه عن نصف متر، ويستدل منه على أنه لم يكن فوقه مبنى آخر، ولا يبعد أنه كان يستعمل مخازن لحفظ الحبوب، وكانت جدران هذه المخازن تقام من طين معجون كتل منه الواحدة فوق الأخرى على غير نظام، أما رقعة العشة فإنها كانت تغطى بطبقة من الطين المعجون، وكانت تحفر بعض الشيء على شكل صحن، وتجهز في الجزء المنخفض منها بإناء مثقب مثبت في الأرض لجمع المياه وتصريفها. أما أساس العشة فكان يثبت في الأرض على عمق لا يزيد عن خمسة وعشرين سنتيمترا، وكان يوجد في العشش الممتازة قصبة ساق جاموس البحر مثبتة عموديا في الجدار الداخلي، لتكون بمثابة سلم لتسهيل الدخول فيها، وقد وجدت بقايا حصر كانت على أرض سطح العشة، ولا ريب في أن هذه الأكواخ أو العشش كانت تستعمل مأوى لأهالي مرمدة القدماء يحتمون فيها من العواصف والمطر، ويبيتون فيها ليلا عند اشتداد البرد، ومن المدهش أنه لا يوجد في هذه العشش أي أثر من آثار الإنسان ولا آية آلة من الآلات التي كانت تستعمل في الحياة المنزلية. أما سقف هذه العشش القليلة الارتفاع، فكان يصنع من حصير سميك من الغاب يوضع أفقيا، وفي حالة واحدة عثر على مكان عمودين متقابلين في إحدى هذه العشش، ومن المحتمل جدا أنهما كانا قد وضعا لأجل أن ينصب عليهما جلد حيوان لتغطية السقف، وربما كان ذلك أول محاولة لعمل خيمة يحمي إنسان هذا العصر فيها نفسه من زمهرير البرد وقيظ الحر.
أما في قرية العمري - السالفة الذكر - فإن عششها وجدت على شكل مستدير وفي وسطها موقد، وعلى مقربة من هذه العشش كانت تقام سلات عظيمة من الحصير المجدول لها غطاء، ومدهوكة بغرين النيل كانت تستعمل مخازن لحفظ الحبوب.
أما المدافن النيوليتية فكانت كالتي في مرمدة تحفر في القرية نفسها على مقربة من الأكواخ، وكانت تحفر كلها في مكان خاص - كما هو الحال في العمري وفي كل الوجه القبلي - بالقرب من القرية على حافة الصحراء بعيدة عن فيضان النيل، وكان كل قبر على شكل حفرة بيضية المنظر كالكوخ نسه، وكانت الجثة توضع راقدة على الجانب الأيمن غالبا في قرى الوجه القبلي، أما في الوجه البحري فكانت توضع على الجانب الأيمن مثبتة بحيث تضم الركبتان نحو الصدر في معظم الأحيان، أما وجه المتوفى فكان يتجه نحو المساكن، وقد عثر أحيانا على جثث موضوعة على حصير أو ملفوفة في جلد أو حصير، وقد لوحظ في مرمدة بني سلامة أن يد المتوفى كانت توضع بالقرب من فمه، وأحيانا شوهد أن إحدى أصابعه كانت في أسنانه، وكذلك لوحظ أن حبوبا من القمح كانت مبعثرة في يده أو حول رأسه، وفي بعض المقابر عثر ضمن محتوياتها على أوان عادية ولوحة لطحن مادة الزينة وعلى آلات من الظران، وهذه المقابر لم تكن فوقها مبان أخرى. هذا خلاف قرية العمري التي كان يعلم فيها القبر بعدة أحجار مكومة بعضها فوق بعض، وقد استعمل كثير من هذه المقابر لدفن أكثر من واحد من أفراد الأسرة، وفي هذه الحالة كان يجهز مكان في القبر للقادم الجديد، وذلك بجمع عظام الموتى القدماء ووضعها بعناية في جانب من القبر، وهذه العادات المأتمية التي تدل على أن القوم كانوا يعتقدون بحياة أخرى هي المصدر الوحيد لدينا عن معتقدات العصر النيوليتي، ولا يبعد قط أن تكون هذه العادات النيوليتية التي عثر عليها في هذه القبور، هي التي نهج على منوالها قدماء المصريين وبقوا يسيرون عليها في كل عصور التاريخ الفرعوني مع إدخال تحسينات عليها. أما من جهة ديانتهم الحقيقية وآلهتهم وعباداتهم فإننا لا نعرف عنها شيئا قط، وذلك أمر طبيعي؛ لأن الكتابة لم تكن معروفة بعد.
Unknown page