Mawsucat Misr Qadima
موسوعة مصر القديمة (الجزء الأول): في عصرما قبل التاريخ إلى نهاية العصرالإهناسي
Genres
Description de l’Egypte ، ولكن بكل أسف لم يستفد التاريخ من كل هذه البحوث إلا أشياء ضئيلة؛ وذلك لأن النقوش التي نقلوها من المعابد وغيرها، بقيت صامتة إلى أن جاء «شمبليون» وحل رموزها - كما سنذكره بعد - ومنذ حل رموز اللغة المصرية أخذ تاريخ البلاد الحقيقي ينجلي شيئا فشيئا، مما قضى على الأساطير والخرافات التي نقلها كتاب اليونان الذين رادوا وادي النيل وكتبوا عنه، وقد بقيت هذه الأساطير تعتبر في أعين العالم إلى هذا الوقت أنها تاريخ البلاد الذي يعتمد عليه، وفي الفترة التي كان في خلالها علماء الآثار المصرية يسيرون بخطى وئيدة ثابتة في كشف النقاب عن تاريخ البلاد الحقيقي، بفضل المجهودات الجبارة التي كانت تبذل في عمل الحفائر، وحل رموز النقوش التي كانت على جدران المعابد وفي أوراق البردي في وادي النيل، كانت هناك جهود أخرى عظيمة يبذلها جماعة من علماء أوروبا في وضع أساس لعلم آخر جديد في الجهة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، وهذا العلم الجديد هو علم ما قبل التاريخ، وقد كان في بدايته غير مدعوم الأساس إذا قرناه بعلم الآثار المصرية، وكانت ماهيته تنحصر في بحث حل مسألة أصل الإنسان قبل التاريخ، أو بعبارة أخرى قبل ظهور الكتابة، وذلك بدرس بقايا العظام الإنسانية وغيرها، مما خلفه أصحابها من الآثار والصناعات التي تركت بعدهم على سطح الأرض مهملة ، أو وجدت مدفونة في المغارات والكهوف، أو في مجاري الأنهار القديمة، وقد أسفرت النتيجة أخيرا عن نجاح بعض العلماء بعد معارضات شديدة في وضع أسس لهذا العلم، والواقع أنه بعد مجهود نصف قرن تمكن العالمان «بوشيه» و«بيرن» من وضع مؤلف يبحث في عصر ما قبل التاريخ، وقد جاء بعدهما طائفة من العلماء، توصلوا إلى تثبيت أصول هذا العلم ببحوثهم حتى أصبح معترفا به في كل الأوساط العلمية في أوروبا.
ومن المدهش أن بعض الكتاب الأقدمين قد تكلموا عن هذا العلم قبل معرفته ووضع أصوله، فقد أشار الشاعر اللاتيني لوكريه
Lucerêe
إلى ذلك بقوله: «إن الإنسان الأول كان يجهل استعمال المعادن، ولذلك كان يتخذ الأخشاب والعظام وخاصة الأحجار المهذبة بحذق ومهارة آلات وأسلحة للصيد والحرب، وبعد ذلك بزمن أصبح الإنسان زارعا، ثم أخذ في تحسين آلاته وصقل حد «بلطته».»
والواقع أن ذلك يتفق مع الحقائق التاريخية؛ إذ وجدنا أن العصر الحجري قد استعمل فيه الظران المهذب ثم المصقول، ثم خلف ذلك عصر يشعر بالرقي والتدرج، وهو عصر استعمال معادن. ويلاحظ أنه بظهور المعادن بدأ استعمال الظران يقل شيئا فشيئا، ولا غرابة أن استعمال النحاس، ثم اختراع البرنز الذي حل محله الحديد فترة قصيرة، وكان من الأمور التي خطت بالإنسان خطوات جديدة نحو الرقي حتى العصر التاريخي - أي عصر استعمال الكتابة والقراءة - في تدوين كل حوادثه وأعماله، على أن أمم العالم لم تتساو كلها في الوصول إلى هذه الدرجة بسرعة واحدة أو في وقت واحد، فمثلا البلاد المصرية والأقطار الكلدية تعرفان الكتابة والقراءة منذ آلاف السنين قبل التاريخ الميلادي في الوقت الذي بقيت فيه زمنا طويلا تجهل وجود الجديد، ومن جهة أخرى نشاهد أن سكان ممالك البحر الأبيض المتوسط قد مكثوا عدة قرون مدفونين في ظلمات عصر ما قبل التاريخ، ومع هذا فإنهم كانوا يعرفون استعمال الحديد منذ أزمان طويلة قبل الفتح الروماني.
ومن الطريف المدهش أن أبحاث علماء ما قبل التاريخ قد ظلت غير معترف بها عند علماء الآثار المصرية معظم القرن التاسع عشر، وسبب ذلك أن هؤلاء الأثريين كانوا يشكون في وجود عصر في تاريخ مصر قبل عهد الدولة القديمة؛ وذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن سكان مصر لم يكن لهم عهد طفولة كباقي الأمم، بل إنهم وجدوا في التاريخ فجأة، وأن مدنيتهم كانت شبه كاملة، ولذلك رفض علماء الآثار أن يبحثوا عن منشأ هذه الثقافة الزاهرة، التي كان لا بد لها أن تصل إلى ما وصلت إليه تدريجا بعد انقضاء عدة قرون، ولهذا السبب أبوا أن يفحصوا الآلات المصنوعة من الحجر، وهي التي وجدوها عفوا أثناء القيام بأعمال الحفر، أو التي جمعت من فوق سطح الأرض، وقد فسروا وجودها بأنها من عمل الطبيعة، أو أنها صنعت في عهد الأسرة الفرعونية.
وهكذا بقي النضال بين علماء الآثار قائما إلى أن وفد على وادي النيل العالم الفرنسي أرسلان
Arcelin ، فكان أول من أثبت وجود علم ما قبل التاريخ في مصر، وقد دعم قوله بالبراهين.
حضر هذا العالم إلى مصر في عام 1868، وساح في النيل ذهابا وإيابا، وقام أثناء رحلته بأبحاث منتجة، فجمع من حافة الصحراء التي أقيم عليها الأهرام بعض آلات من الظران المهذب التي تشبه ما عثر عليه في أوروبا، وقد أسعده الحظ بأكثر من ذلك؛ إذ عثر في الهضبة التي تشرف على وادي الملوك تجاه الأقصر على مصنع عظيم من الظران، يرجع عهده إلى العصر الحجري القديم «الباليوليتي»، وقد ظهر أن ما وجد في هذه البقعة يشبه كثيرا ما عثر عليه في سان آشل
Saint Acheul ، وفي الجنوب من البقعة السالفة الذكر، وفي أبي منقار عثر على بعض آلات من العصر الحجري الحديث.
Unknown page