424

Mawsūʿat al-akhlāq waʾl-zuhd waʾl-raqāʾiq

موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق

Genres

رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤيا يوم أحد قالها لأصحابه: "إني رأيت والله خيرا، رأيت بقرا يذبح، ورأيت في ذباب سيفى ثلما، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة"، وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأول الدرع بالمدينة، ثم قدم رأيه إلى أصحابه ألا يخرجوا من المدينة، وأن يتحصنوا بها، فإن أقام المشركون بمعسكرهم أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون في الطرقات، والنساء من فوق البيوت. ووافقه على هذا كبار السن وفرح عبد الله بن أبي بن سلول بهذا الرأي، وأشارت جماعة من أفاضل الصحابة الذين لم يخرجوا في بدر- أشاروا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخروج قائلين: يا رسول الله كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم. ومنهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة، ورفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيه أمام رأي الأغلبية، ثم صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة بالناس وحثهم على الجهاد، ثم صلى العصر ثم دخل بيته فتقلد سيفه فقال سعد بن معاذ وأسيد بن حضير للشباب: لقد استكرهتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخروج فردوا الأمر إليه، فندموا على ما صنعوا فلما خرج قالوا له: يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ينبغى لنبى إذا لبس لامته -وهي الدرع- أن يضعها، حتى يحكم الله بينه وبين عدوه"، وقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشه إلى ثلاث كتائب ثم سار إلى العدو مع ألف مقاتل. وتمرد عبد الله بن أبي -وكان على مقربة من العدو فقد كان يراهم ويرونه- فانسحب بثلث الجيش ثلاثمائة مقاتل قائلا: ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ متظاهرا بالاحتجاج على ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرأيه وإطاعة غيره، وكان هدفه هو إحداث بلبلة واضطراب في جيش المسلمين وإضعاف معنويات من بقي مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكاد ينجح؛ فقد همت طائفتان -بنو حارثة بن الأوس وبنو سلمة من الخزرج- أن تفشلا ولكن # تولاهما الله فثبتهما بعد أن هما بالانسحاب {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [آل عمران: 122] وحاول عبد الله بن حرام -والد جابر بن عبد الله- تذكير هؤلاء المنافقين بواجبهم في هذا الظرف الدقيق، فتبعهم وهو يوبخهم ويحضهم على الرجوع، ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع، فرجع عنهم عبد الله بن حرام قائلا: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه.

قال تعالى: {وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون} [آل عمران: 167].

يقول سيد قطب: لقد كان في استطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة، التي تعرضت لها، وهي بعد ناشئة ومحاطة بالأعداء من كل جانب، والعدو رابض في داخل أسوارها ذاتها، نقول كان في استطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة التي تعرضت لها، لو أنه قضى برأيه في خطة المعركة مستندا إلى رؤياه الصادقة، وفيها ما يشير إلى أن المدينة درع حصينة، ولم يستشر أصحابه، أو لم يأخذ بالرأي الذي انجلت المشورة عن رجحانه في تقدير الجماعة، أو لو أنه رجع عن الرأي عندما سنحت له فرصة الرجوع، وقد خرج من بيته، فرأى أصحاب هذا الرأي نادمين أن يكونوا قد استكرهوه على غير ما يريد، ولكنه -وهو يقدر النتائج كلها- أنفذ الشورى، وأنفذ ما استقرت عليه، وذلك كي تجابه الجماعة المسلمة نتائج التبعة الجماعية، وتعلم كيف تتحمل تبعة الرأي، وتبعة العمل، لأن هذا في تقديره - صلى الله عليه وسلم - وفي تقدير المنهج الإسلامي الذي ينفذه أهم من اتقاء الخسائر الجسيمة، ومن تجنب الجماعة تلك التجربة المريرة، فتجنيب الجماعة التجربة معناه حرمانها الخبرة، وحرمانها المعرفة، وحرمانها التربية (¬1).

بيت المقدس

بعد الانتصار الذي أيد الله به المسلمين على أعدائهم الروم في أجنادين، حاصر جيش المسلمين الروم في

بيت المقدس

Page 42