16
فإذا أضفت إلى قضية «نابليون جاء في حملة على مصر.» التي يراد تحقيقها قضايا أخرى كل منها يمكن أن يحقق بالحس المباشر، كأن تصف في عدة عبارات بعض آثاره التي لا تزال قائمة، أو بعض الوثائق التي يمكن الاطلاع عليها مباشرة، أمكنك من هذه المجموعة أن تستدل ماذا عساك أن تخبر إذا أردت أن تحقق صدق القضية التاريخية المراد تحقيقها، وهي «نابليون جاء في حملة على مصر.»
وقد يزيد الأمر وضوحا لو ضربنا مثلا آخر من الحياة اليومية، فالقاضي حين يحكم بأن «زيدا قتل عمرا بسكين» لا يستطيع أن يحقق هذه العبارة تحقيقا مباشرا بالحس؛ لأن الحادث وقع في الماضي ولا يمكن إعادته أمام أبصارنا من جديد، لكنه يستعين على ذلك بعدد من عبارات أخرى، كل عبارة منها تصف شيئا مما يمكن إدراكه بالحواس مباشرة، بحيث إذا ضممنا هذه العبارات الأخرى إلى الحكم الأصلي، القائل بأن «زيدا قتل عمرا بسكين» وجدنا أمامنا مجموعة يمكن أن نستنبط منها ما شئنا استنباطه من شواهد على أن الحكم صحيح، على شرط ألا يكون في مستطاعنا أن نستنبط هذه الشواهد من العبارات الأخرى وحدها التي استعان بها القاضي، مستغنين بذلك عن القضية الأصلية، وهي أن «زيدا قتل عمرا بسكين»؛ لأنه لو أمكن تفسير كل شيء مع الاستغناء عن افتراض قتل زيد لعمرو، لما كان لدينا الأساس الصحيح الذي نحكم به على صدق ذلك الحكم.
هكذا يكون لدينا طريقان لتحقيق العبارة التي نزعم أنها ذات مضمون واقعي؛ طريق مباشر كأن أقول «هذه بقعة مستديرة من اللون الأصفر.» مشيرا إلى برتقالة، وطريق غير مباشر، بأن أستعين بعدد من الشواهد التي تضاف إلى الجملة المراد تحقيقها، فتهيئ لي مجموعتها وسيلة استنباط الخبرة الحسية التي يمكن أن أصادفها إذا كانت الجملة الأصلية صادقة.
ولعل هذا الشرح يعيننا على فهم ما أورده الأستاذ «آير» في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه،
17
خاصا بطريقة تحقيق العبارات، إذ قال: «إنني أزعم أن العبارة تكون ممكنة التحقيق بطريق مباشر، إذا كانت هي نفسها عبارة شهادية (أي عبارة تدل على ما يمكن مشاهدته مباشرة)، أو إذا كانت عبارة، لو أضيفت إليها عبارة شهادية واحدة أو أكثر، استتبعت على الأقل عبارة شهادية واحدة لا يمكن استنتاجها من تلك العبارات المضافة وحدها، وأزعم كذلك أن العبارة تكون ممكنة التحقيق بطريق غير مباشر لو أوفت بالشرطين الآتيين؛ أولا: لو كانت بالإضافة إلى مقدمات أخرى تستتبع عبارة أو أكثر مما يمكن تحقيقه مباشرة، وثانيا: لو كانت هذه المقدمات الأخرى لا تتضمن عبارة غير تحليلية أو غير ممكنة التحقيق بطريق مباشر، أو غير ممكن تحقيقها في ذاتها بطريق غير مباشر.»
خذ مثلا يوضح مرة أخرى: أمامك عبارة «الماء يغلي في درجة مائة.» فكيف يمكن تحقيقها؟
أولا ليست هذه العبارة مما يحقق بالشهادة المباشرة؛ لأنه ليس في دنيا الواقع شيء اسمه «ماء» بصفة عامة، إنما الذي في دنيا الواقع هو هذه الحفنة الجزئية من الماء وتلك الحفنة الجزئية منه، وعلى ذلك فلا بد أن نلجأ إلى التحقيق بطريقة غير مباشر، بأن نضيف إليها عدة عبارات أخرى، مثل: (1) «الماء في هذا الوعاء يغلي.» (2) «الزئبق في الترمومتر يشير إلى رقم مائة.» (3) «الدرجة الحرارية اصطلاحا هي امتداد الزئبق بين خطين من خطوط الترمومتر.» ... إلخ، ونلاحظ أن العبارتين الأوليين يمكن أن تحققا بالشهادة المباشرة، وأن العبارة الثالثة جملة تحليلية تحدد معنى اصطلاح علمي معين، وإذن فلا تحقيق لها من عالم الحس، وهذا يفسر لنا قول «آير» السابق، من أن العبارة التي يمكن تحقيقها بطريق غير مباشر، نضيف إليها عدة عبارات أخرى، تكون إما ممكنة التحقيق مباشرة، أو تكون عبارة تحليلية.
ثم يضيف الأستاذ «آير» إلى قوله السابق ما يأتي: يلاحظ أنني عندما ذكرت شرطي إمكان التحقيق غير المباشر، ذكرت صراحة شرطا يجيز أن تتضمن «المقدمات الأخرى» عبارات تحليلية، ومرادي بذلك هو أن أفسح المجال للنظريات العلمية التي تعبر عنها بمصطلحات ليست في ذاتها تدل على شيء مما يمكن شهادته بالحواس؛ لأنه في مثل هذه الحالة يمكن إنشاء «قاموس» يمكننا من تحويل هذه المصطلحات إلى عبارات يستطاع إخضاعها للتحقيق، والعبارات التي يتألف منها القاموس قد تعتبر عبارات تحليلية، وإلا لما وجدنا فرقا بين النظريات العلمية وبين العبارات الميتافيزيقية التي نريد حذفها «غير أنني أرى أنه مما يميز الميتافيزيقي أن عباراته ليست تصف شيئا مما يمكن - ولو من الوجهة النظرية - أن يخضع للملاحظة، ثم لا يقتصر أمره عند هذا الحد، بل إنه ليس هنالك قاموس يمكننا بواسطته تحويل العبارات التي يقولها الميتافيزيقي إلى عبارات يمكن تحقيقها بطريق مباشر أو غير مباشر.»
Unknown page