8 «مدركات زائفة» أو «أشباه مدركات»، إذ إنها قد توهم بأنها رمز يرمز إلى مدرك مع أنها ليست كذلك، أقول: إنه خير لنا أن نضع مكانها «س»، فتصبح العبارة التي أمامنا «كل س في هذا العالم يحتوي على ذات ووجود.» والذي نستفيده من هذا الوضع الجديد للعبارة، هو أننا سنرى على الفور أنها لا تدل على معنى إلا إذا وضعنا مكان «س» اسما لفرد من الأفراد، كاسم «العقاد» مثلا.
فكأن العبارة بهذا التحوير قد أصبحت: «العقاد يحتوي على ذات ووجود.» فلنجعل هذه الصورة هي مدار التحليل، ونترك كلمة «ذات» مؤقتا، لننظر في معنى كلمة «وجود»، فنلاحظ للوهلة الأولى أنها هي الأخرى ليست اسما قيل ليسمي شيئا بذاته، فلو أننا - نظريا - أعطينا لكل كائن جزئي في العالم اسما خاصا به، لاستغنينا عن كلمة «وجود» ومشتقاتها، إنه من تحصيل الحاصل أن تصف الفرد الجزئي بالوجود، كأن تقول مثلا: «العقاد موجود»؛ إذ اسم العلم وحده كاف للدلالة على وجود مسماه، فاسم العلم هو بمثابة اسم الإشارة «هذا»، ويستحيل منطقيا أن تستعمل اسم الإشارة دون أن يكون هنالك الفرد الجزئي المشار إليه، فلا معنى لقولك مشيرا إلى فرد ما: «هذا موجود.» إذ يكفي قولك عنه «هذا» ليبرز وجوده ويتحدد، وكذلك قل في عبارة «العقاد موجود.» «فالعقاد» وحدها تشير إلى الفرد الذي نريد أن نجعله موضوع الحديث، فقولنا: «العقاد يحتوي على وجود.» قول فارغ من المعنى، اكتسب ما حسبناه معنى له من شبهه بأقوال أخرى، مثل: «هذا الصندوق يحتوي على برتقالة.» فليس في العالم الخارجي كائنان: أحدها يسمى العقاد، والآخر يسمى وجود، حتى يجوز لنا أن نقول عن الكائن الأول إنه يحتوي على الكائن الثاني، إنني أدعو القارئ في هذا الموضوع إلى ملاحظة هامة جدا، وهي أنني لا أقول عن عبارة «العقاد يحتوي على وجود» إنها كاذبة أو إنها تصور الواقع تصويرا خاطئا، بل أقول عنها: إنها كلام فارغ من المعنى، إنها لا تصور شيئا أبدا، وبالتالي فلا مسوغ للحكم بأنها صورة صحيحة أو صورة فاسدة، هي لا تصور شيئا لأنني إذا أردت أن أبحث في أجزاء «العقاد» لأرى هل يكون من بينها «وجود» أو لا يكون، لا أدري منذ البداية عن أي شيء أبحث؟ لو قيل: «العقاد يحتوي على أربعة آذان» لكان للكلام معنى، وإن يكن صورة خاطئة للواقع، فأنا في هذه الحالة أعلم عم أبحث في الواقع الخارجي لأعلم صدق ما تزعمه العبارة أو كذبه، أما أن «العقاد يحتوي على وجود» فليست بذات معنى.
فيبقى لنا من عبارتنا الأصلية هذه البقية الآتية «العقاد يحتوي على ذات.» فهل لهذا القول معنى؟ لكي نجيب على هذا السؤال، نعود فنسأل: أين المسمى الذي أطلقت عليه كلمة «ذات» حتى يتسنى لي أن أفحص العقاد؛ لأرى إن كان محتويا على «ذات» أو لم يكن؟ إنني هنا لا أطلب من المتكلم سوى أن يصور لي الفرد الذي أطلق عليه اسما معينا، هو كلمة «ذات» فإن استطاع كان للعبارة معنى، وإلا فهي قول فارغ، أي المرئيات تقع على عين الرائي، وأي المسموعات تطرق أذن السامع، من الشيء الذي أسميناه «ذاتا»؟ إذا قال القائل «ذات العقاد» هي ملابسه أو هي كتبه، أو هي صوته في الحديث، أو هي ما شاء لها أن تكون من بين ما يمكنني أن أراه وأن أسمعه، كان لقوله معنى - سواء كان القول بعدئذ يقدم صورة صحيحة عن العقاد أو صورة فاسدة - فللقائل إذن أن يختار شيئا يرمز إليه بهذا الرمز الذي يستخدمه، وأعني به كلمة «ذات»، أما إذا زعم لنا أنه يشير بهذا الرمز إلى كائن لا تراه عين ولا تسمعه أذن، فما الفرق عندئذ بين أن يقول كلمة «ذات» وبين أن يضع مكانها أي ترقيم آخر يخط على الورق؟ إذا لم يكن هنالك شيء بعينه يريد أن يرمز له بهذا الرمز، ففيم استخدامه؟ من ذلك كله ترى أن عبارة «العقاد يحتوي على ذات ووجود» فارغة لا تصور شيئا مما يمكن للسامع أن يفهمه ... ولنا إلى هذا الحديث عودة أخرى.
3
العبارة الميتافيزيقية التي تخبرنا عن شيء غير محس عبارة فارغة من المعنى، لسبب بسيط، وهو أنها ليست مما يجيز المنطق أن يكون كلاما على الإطلاق، فمتى يقبل الكلام عند المنطق؟
المنطق يقبل الكلام إذا كان لدى السامع وسيلة لتحقيقه، فإما أن يصدقه بعد التحقيق أو يكذبه، أما الكلام الذي يستحيل بطبيعة تركيبه أن نتصور وسيلة لمراجعة صدقه أو كذبه، فهو كلام خاو من المعنى، ولا أقول إن الكلام يكون كذبا أو باطلا أو خاطئا؛ لأن هذه صفات لا يصح استعمالها إلا إذا كانت هنالك وسيلة لمراجعة الصورة الكلامية على الحقيقة التي تصورها ثم وجد أنها لا تطابقها.
على أن الصدق (أو الكذب) يختلف معناه باختلاف نوع العبارة التي نقولها، ولا تخرج العبارة التي يمكن وصفها بالصدق أو الكذب عن أحد نوعين: فهي إما تحليلية أو تركيبية، وليست العبارة الميتافيزيقية بواحدة منهما، كما سترى فيما بعد.
والعبارة التحليلية هي التي لا تقول شيئا جديدا عن الموضوع التي تتحدث عنه، فهي لا تفعل سوى أن تحلل ذلك الموضوع إلى عناصره، بعضها أو كلها، فإن قلت مثلا: «الزاوية القائمة تسعون درجة، فأنت لا تقول شيئا جديدا عنها يضاف إلى تعريفها، أي إنني إذا سألتك: قل لي أولا ما معنى «الزاوية القائمة» قبل أن تقول لي عنها ما تنوي أن تقوله؛ لأنني لم أسمع بهذا الاسم من قبل، فلن تستطيع أن تعرفني بها بغير أن تلجأ إلى قولك: إنها تسعون درجة، بعد أن تشرح لي - إذا طلبت منك ذلك - ما معنى زاوية ، وما معنى درجة، وبعد ذلك الشرح لمعنى «زاوية قائمة»، سأجد، وستجد معي، أنك حين قلت لي: «إن الزاوية القائمة تسعون درجة.» لم تكن في الحقيقة تخبرني بجديد، إذا فرضنا أنني أعرف من قبل معنى كلمتي «الزاوية القائمة» وحدها، أعني أن عبارتك هذه جاءت تحصيل حاصل، أو هي عبارة تحليلية.
في مثل هذه الحالة يكون تصديق العبارة قائما على مراجعة التحليل، لنرى هل جاء وفق ما اتفقنا عليه من معاني الألفاظ، أم خرج عليه، ولا يكون التصديق بمطابقة القول على شيء في الطبيعة، إذ ماذا عساك واجد في الطبيعة مما يعينك على تصديق عبارة كهذه أو تكذيبها؟ لو وجدت زاوية وقستها ووجدتها أقل من تسعين درجة أو أكثر، سأقول لك إنها ليست قائمة، وإذن فيستحيل أن تعثر على مشاهدة لشيء في الخارج، يمكنها أن تفند ما أقوله لك، ومن هنا كان يقين القضايا الرياضية كلها، فالقضية الرياضية يقينية؛ لأنها تحصل حاصلا، ولا تقول شيئا جديدا، أعني أنها تحلل صيغة أو رمزا إلى صيغة أخرى أو رمز آخر تحليلا يجعل الصورتين متساويتين متعادلتين.
وأما العبارة التركيبية فهي التي تقول لك خبرا جديدا، إذا أردت تصديقه أو تكذيبه، كان لا بد لك من الخروج إلى حيث الطبيعة تشاهدها، لتقارن ما تأتيك به الخبرة الحسية منها، بما تزعمه لك عبارة القائل، فإن قلت لك - مثلا - إن في السلة عشر برتقالات، فلست بذلك أقول معنى كلمة السلة، وإنما أضيف إلى معناها المعروف خبرا، هو أنها تحتوي على برتقالات عشر. افرض - كما فرضنا في حالة الزاوية القائمة - أنك لا تعرف معنى كلمة «سلة» وسألتني: قل لي أولا ما معنى «سلة» قبل أن تقول لي عنها ما تنوي أن تقوله؛ لأنني لم أسمع بهذا الاسم من قبل، عندئذ أستطيع أن أشرح لك معنى الكلمة دون أن يكون احتواؤها على عشر برتقالات جزءا من معناها، وإذن فقولي عنها إنها تحتوي على تلك البرتقالات العشر هو خبر جديد، يكون تصديقه بالمطابقة بينه وبين حالة واقعية خارجية، وتكون وسيلة هذه المطابقة هي الخبرة الحسية.
Unknown page