آلام الذكرى
لم يبق من ذلك الصرح إلا درجاته الرخامية السبع، أما القصر فقد أحرقته قنابل الطيارات، وذرت رماده الرياح.
هناك وقفت وصديقي «مخيبر كيروز» الفتى البشراوي الصلب، ندير النظر فيما حولنا حيث تبعثرت الذكريات.
في سفح تلك الهضبة، حفرنا بأيدينا النفق الذي كنا نهرع إليه كلما ظهرت الطائرات القاتلة. انظر! فالفوهة لا تزال بادية. كم من يوم لبثنا ونساؤنا وأطفالنا قابعين في تلك الظلمة، وشظايا القنابل تصفر من حوالينا، والرعب يرجف قلوبنا. كم ضرعنا إلى الله أن يبقي ولو واحدا منا حيا، يخبرهم في لبنان كيف قضوا نحبهم، أولئك الذين لن يعودوا. لقد ملأنا ذلك النفق صلوات، ونحيبا وشتائم، تلك هي الشجرة التي تفيأناها، كلما غابت الطائرات وانقطع هديرها. ألا ترى الشجرة يابسة مقصوفة؟ أتذكر يوم هصرتها الشظية؟ إلى يميننا في الجهة المقابلة، حطام مخفر اليابانيين حيث اعتقلنا متهمين بالجاسوسية للأميركان. من كان يحسب حين وضع الجاويش السنكة في صدر مخيبر، وشد رفيقه بالمسدس على صدغي؛ أننا سنخرج من ذلك المخفر سالمين؟ أدر عينك إلى القمة المحاذية، ألا ترى خراب الدير، حيث احتمينا أسبوعا؛ ظنا بأن الطيارات لن تهتك حرمة المعبد؟ من ينسى تلك الظهيرة، إذ حومت الطيارات المزدوجة الجسد، وانهالت على الدير بصوب من الرصاص، فقتلت الفتى الإسبنيولي في ساحة الدير؟ ... صدق العرب! ليس أشجع من امرأة! كنا رجالا يربو على المائتين عددنا، فمن جسر على أن يخرج من مخبئه في البناية الحجرية إلى الساحة، حيث صرع الفتى الإسبنيولي؟ من قفز إلى الخارج، إذ كانت الطيارات تحوم وتصب الرصاص على الساحة إلا أم الفتى المقتول! ها هي راكعة إلى جانب ولدها ، ناحبة جافة العينين. لقد جست نبضه وتحققت من موته. تطلع إليها وقد شخصت إلى السماء وهزت قبضتها في وجه الطيار، ترى ما نطقت به تلك الثكلى في تلك الساعة؟ من سمع؟ من يدري؟ من يأبه؟
لبثنا في أسفل البناية، شجاعنا يهدئ روع النساء، وسائرنا في بله، أو هستيريا، أو غارق في الصلاة ...
أجل طرفك في البناية التي تلاصق الدير ... بلى، تلك الدار المتهدمة، المشوهة السوداء، ألا ترى أربع راهبات قتيلات في الممر؟ هنا رأس، وهناك رئتان ومصارين، وعين التصقت بحائط الغرفة الخارجي، حيث خبأنا مئونتنا. كيف تراكضنا قافزين فوق جثث الراهبات نختطف أكياس مئونتنا وحقائب ثيابنا. وعلام نبتعد بأنظارنا؟ هنا حيث تقف عتبة قصر «أركوس»، الكهل الإسبنيولي المرح، كم أتينا إليه في العشيات، فما إن ندنو من بوابة الحديقة حتى يتراكض أولاده الثلاثة، طفلته «كرمن» في السابعة من العمر، ترحب بنا ووراءها كلبها «برنس» يبصبص بذيله وينبح متأهلا، وابناه التوأمان؛ «رمون» يصيح بالخادمة أن هيئي القهوة للمواطنين، و«هوان» ينادي أباه أننا أتينا. ويوم عيد ميلاد «أركوس»، كم أفرغنا من زجاجة! وحلمنا بسعادة. كم غنى لنا «أركوس» بصوته الفخم الهدار وزوجته ترافقه موقعة على البيانو:
أواه ما أبعدك يا أرض إسبانيا!
آه ما أقسى الغربة عن ربوعك!
إني لأعجب أن أبقى حيا، وأنا مغترب عنك
غير أن قلبي ومشاعري
Unknown page