72

ومما يروي عنه أنه كان أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الصيف ورحلة الشتاء، وحقيقة ذلك فيما يخلص لنا من سوابق الرحلات أنه كان يحمي تلك الرحلات وينظمها، فنسب إليه أنه أول من سنها.

ومكانته في غير قريش - وفي مدن التجارة الخاصة - تدل عليها مصاهرته لبني النجار في المدينة، وزواجه من سلمى بنت عمرو التي كانت - لشرفها وعزتها - تأبى أن تتزوج إلا أن يكون أمرها بيدها ، ولو لم يكن لهاشم مقامه في الحجاز كله لما أصهر إلى القوم، ولا ارتضى القوم هذه المصاهرة من رجل يزور مدينتهم زيارة الطريق بين مكة والشام. وقد كان المعهود في بني عبد مناف أنهم لا يقعدون جميعا في ديارهم، وأنهم لا تزال لهم همة طامحة في رحلاتهم وأسفارهم، ومات أكثرهم في غير وطنهم، فمات هاشم بغزة في الشام، ومات عبد المطلب برومان إلى ناحية من أرض اليمن، ومات نوفل بسلمان في العراق.

وابن هاشم عبد المطلب سيد قريش غير مدافع، ويبلغ هذا التقابل بين الأسرتين أقصاه في عهد مناظرة حرب بن أمية، فكان كلاهما نمطا في بابه من طرفي العقيدة والأريحية وطرف السعي والحيلة.

وكان عبد المطلب متدينا صادق اليقين، مؤمنا بمحارم دينه في الجاهلية؛ لأن ثقة الإيمان طبيعة في وجدانه، وهو أول من حلى الكعبة بالذهب من ماله، ويغنينا منه أنه كان في الحق نمطا فريدا بين أصحاب الطبائع التي فطرت على الاعتقاد ومناقب النبل والإيثار.

فلم تكن مناقبه من مناقب الطابع والوتيرة التي تتكرر على صورة واحدة بين المتصفين بها، ولم يكن كرمة ولا حزمه ولا شجاعته من قبيل الصفات التي تعرف بهذه الأسماء في جميع الكرماء وذوي الحزم والشجاعة.

بل كانت مناقبه مطلبية تدل عليه ولا تصدر من غيره، وكانت كلها مزيجا من الأنفة والرصانة والاستقلال، ومواجهة الغيب على ثقة وصبر وأناة.

وهذه طائفة من أخباره لا نفتقد في واحدة منها تلك المناقب المطلبية التي تعز على خيال المتخيل ما لم يكن وراءها أصل تحكيه وترجع إليه.

وصل أبرهة الحبشي عام الفيل إلى أرباض مكة، وبعث رجلا من العرب يسمى حناطة يسأل عن «أمير مكة»، ويبلغه أن أبرهة لم يأت لقتالهم، وإنما أتي لهدم البيت الحرام، فإن لم يمنعوه فهم في أمان من حربه، فلما لقي الرسول عبد المطلب وأبلغه رسالة أبرهة، قال عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وهذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم، فإن يشأ منع بيته وحرمه، وإن لم يشأ تخلى عنه ، ووالله ما عندنا من قتال.

قال الرسول: انطلق معي إلى الملك. فانطلق معه عبد المطلب إلى أن أتى معسكر أبرهة، وأدخلوه عليه.

يقول الرواة: وكان عبد المطلب رجلا عظيما مهيبا وسيما، فنزل أبرهة عن سريره، وأجلسه معه، وسأله عن طلبته، فقال عبد المطلب: الإبل التي ساقها جندك!

Unknown page