( اعلم) أن الأمة اختلفت في وجود الجنة والنار الآن فذهب جمهورنا والأشاعرة وبعض المعتزلة إلى أنهما موجودان الآن، واستدلوا بقصة آدم وحواء عليهما السلام وإسكانهما الجنة وإخراجهما منها بالزلة، وهذا دليل لا يمكن الجواب عنه لنص محكم الكتاب به ولتواتره ضرورة حتى عند من جحد النبوة، والقول بأن الجنة التي كانا فيها غير الجنة الموعود بها في الآخرة تحكم من قائله إذ لا دليل عليه، والأخبار الصحيحة سالكة هذا المسلك فإن كثيرا منها ما يدل على وجودهما الآن.
(واستدلوا) أيضا بقوله تعالى ((أعدت للمتقين))([1]) ((أعدت للكافرين))([2]) بصيغة الماضي لكن يبحث فيه بأنه لا دلالة فيه على المطلوب فقد قال تعالى ((ونفخ في الصور))([3]) ((وسيرت الجبال))([4]) ونحو ذلك.
(وذهب) جمهور المعتزلة وبعض أصحابنا كأبي المؤثر، وأبي سهل وابن أبي نبهان إلى أنهما غير مخلوقين الآن، وإنما يخلقان يوم الجزاء (واستدلوا) بقوله تعالى في حق الجنة ((أكلها دائم))([5]) بمعنى مأكولها دائم أي لا ينقطع، مع قوله تعالى ((كل شيء هالك إلا وجهه))([6]) ((ويبقى وجه ربك والجلال والإكرام))([7]) (قالوا): فلو كانت الجنة مخلوقة الآن لزم فناؤها وهلاكها فلا تكون دائمة والنار مثلها إذ لا قائل بالفرق.
(وأجيب) عنه بأن دوام مأكولها إنما هو على سبيل البدل بمعنى أنه إذا فني واحد جيء بآخر أي لا يتصور دوام مأكول واحد بعينه فلا تنافي (أو نقول): إن فناءهما أن تتفرق أجزاؤهما وتبقى واتهما على ما هي فتكونان فانيتين صورة باقيتين ذاتا (أو نقول): أن كون ذاتيهما قابلتين للفناء كاف في كونهما فان ما أمكن فيه الفناء لذاته فان على الحقيقة ورفع الفناء عنه فعلا لعارض عرض عليه من خارج لا يدفع ذلك الإمكان الذاتي.
Page 106