Mashāhīr aʿlām al-Muslimīn
مشاهير أعلام المسلمين
Genres
الدكتور سيد نوح العالم الرباني
عالم رباني فقدناه ...
الشيخ عبدالحميد البلالي
لم تمنع حرارة يوم 30 يوليو 2007م، والتي تجاوزت الخمسين درجة مئوية، آلاف المحبين من جميع الجنسيات من التوافد على مقبرة الصليبخات لتوديع العالم الرباني الدكتور السيد نوح، بعد أن غادرنا يوم الإثنين 30-7-2007م بعد مرض عضال لم يغير من أخلاقه العالية، وسمته الذي يشبه سمت التابعين، رضي الله عنهم.
فقد زرته في المستشفى قبل وفاته بعشرة أيام، فوجدته راقدا على سرير المرض في مستشفى ثنيان الغانم، وقد منعنا من الدخول عليه، ففتحوا الباب، وإذا بالمرض قد أخذ الكثير من وزنه، وبالرغم من كثرة الأسلاك الموصلة بجسده، إلا أن الابتسامة لم تفارقه، فرفع يده إلي مسلما علي، وابتسامة الإيمان تملأ وجهه الراضي بما كتب الله له..
لقد تعرفت على د. السيد نوح في دولة الإمارات منذ ما يقارب خمس عشرة سنة أو يزيد، وكان لقاء مشتركا في محاضرة، ومنذ تلك اللحظة أيقنت أنني أمام عالم رباني يختلف تماما عن الكثير من علماء هذا العصر، ففي تلك المحاضرة سلم علي بحرارة، وكأنه يعرفني منذ عشرات السنين، وفاجأني حينها بعبارة تدل على تواضع عظيم، عندما قال لي : "أنا أستفيد من كتبكم" فقلت : أستغفر الله. من أنا يا شيخ حتى تستفيد من كتبي!.. لم يقل ذلك مجاملة، بل قالها متجردا من الألقاب والشهرة، والعلم، قالها لأن الفقيه الحق هو من تواضع للآخرين عن قدرة. فقد خرج الحسن البصري مع صاحبين له يتذاكرون التواضع فقال لهما: وهل تدرون ما التواضع؟ التواضع أن تخرج من منزلك فلا تلق مسلما إلا رأيت له عليك فضلا.
كان يرحمه الله صاحب همة عالية، فلا تكاد تراه إلا وهو في شغل للدعوة إلى الله، ما بين خطبة جمعة أو درس في مسجد، أو حلقة علم يديرها، أو إصلاح بين الناس، أو قراءة، أو بحث ينفع به المسلمين أو سفر لنشر دعوة الله تعالى، حتى بعدما ذهب إلى الصين لزرع كبد جديد، وعودته للكويت، ما إن رأى من نفسه شيئا من العافية حتى نفض الغطاء عن جسده الواهن، وانطلق إلى مسجده وحلقته وطلبته ينير لهم طريق الحق..
قد ترى الكثير من الناس في حالات متعددة بين الابتسامة والعبوس، أو بين الضحك والبكاء، أو بين السخط والرضا، ولكنني لم أر د. السيد نوح يرحمه الله، ولم ألقه يوما من الأيام إلا والابتسامة تملأ محياه، حتى في مرض الموت لم تفارقه الابتسامة، وكان إذا سأله أحد وهو في مرضه عن صحته، يقول: "بخير.. الحمد لله".
لقد كان يرحمه الله سريع الدمعة، غزير العبرة، شديد التأثر بكتاب الله تعالى، يقول أحد الذين صلوا يوما بجانبه: لقد سمعته يبكي بكاء شديدا عندما قرأ الإمام، ولم يتوقف أبدا من البكاء، حتى انتهت الصلاة، وطلبوا منه أن يقول خاطرة، فقام أمام الناس، وقال: "لا كلام بعد كلام الله، ولا موعظة بعد مواعظ الله". ثم انصرف، واكتفى بهذه الموعظة.
كنت نقلت له عتاب بعض الإخوة علي لاختصاري لبعض المعاني في كتبي الدعوية، رد علي يرحمه الله أنت اختصر ونحن نفصل.. ومن قرأ كتبه حقا يستمتع بذلك التفصيل غير الممل، والمليء بالعلم، فقد أثرى المكتبة الإسلامية بمجموعة من أروع الكتب في السلوك والدعوة.. منها كتاب "زاد على الطريق"، وكتاب "آفات على الطريق" وكتاب "توجيهات نبوية" والذي يلمس فيه القارئ غزارة العلم، من خلال فهم عميق للأحاديث النبوية، كيف لا وهو المتخصص في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ؟
كان رحمه الله ورضي عنه إذا تحدث في محاضرة أو خطبة، يظن السامع أن المصحف مفتوح أمام عينيه، يختار ما يشاء من الاستشهادات القرآنية دونما تلعثم أو نسيان، بل بسهولة وسرعة بديهة..
وكان المحتك به يحس كأنه تابعي جاء من ذلك الجيل وعاش بيننا..
إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع.. ولكن لا نقول إلا ما يرضى ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون وإنا لفراقك يا سيد لمحزونون.
وكما يقول أبو فراس الحمداني:
لا بد من فقد ومن فاقد
هيهات ما في الناس من خالد
نسأل الله أن يرحم فقيد الأمة الإسلامية رحمة واسعة. وأن يعيننا على الصبر والسلوان، وأن يلهم ذويه الصبر والاحتساب، وأن ينفعنا بعلمه الذي تركه، وأخلاقه التي ربت جيلا من الأتباع والمحبين.. وأن يجمعنا وإياه على سرر متقابلين في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
-----------------
أمير الدعاة..سلام عليك
سلام عليك يا حافظ القرآن، وعالم الشريعة الفقيه، وداعية الإسلام الفذ، وعالم الأمة الهمام، ولسان الهداية الفصيح، ومربي الأجيال القدوة، وموجه الشباب الكريم.
سلام عليك يا صاحب الخلق الفاضل، والحياء الجميل، والأدب الجم، والنفس الطاهرة، والصدر السليم، والأخوة الحانية، والجهد العظيم.
سلام عليك كريما في عطائك، سمحا في بذلك، حانيا في أخوتك، نبيلا في عشرتك، عزيزا في نفسك، عفيفا في يدك.
سلام عليك من الجمهور المحب لك، ومن السائرين في ركابك، والمتفقهين عليك، ومن العاشقين لحديثك، ومن إخوانك المكلومين بفراقك، الفاقدين لعلمك ورجولتك وهديك وجهادك وعاطفتك وسندك وتوجيهك وحنانك.
سلام عليك يا أمير الدعاة وعالي الهمة، صوالا بكلمة الحق، فما مالأت ظالما، ولا مدحت سلطانا، ولا نافقت حاكما، ولا هادنت فاسقا، بل كنت دائما سندا للحق، وسيفا على الباطل، ومعينا لأصحاب الحاجات ومساعدا للمحتاجين والمكلومين، فأنت بحق باق بذكراك ومآثرك، حي بعلمك وآثارك.
يموت الصالحون وأنت حي تخطاك المنايا ولا تموت
وصدق النبي {: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له".
سلام عليك مجاهدا في سبيل الحق، ومرشدا لدروب العلم وموجها لأنوار المعرفة وماحيا لظلام الجهالة ومصلحا لاعوجاج الطبائع ومداويا لنزغات الشياطين، وباعثا للنهضة الثقافية الحقة التي تزود الأمة بالرجال الصالحين والشباب العاملين.
سلام عليك ياعلم الهداية وقدوة الدعاة ومبعث النور ومصدر التوجيه للصلاح والإصلاح، وباني العقول والأفهام وقائدا للغر الميامين وإماما للركع السجود وقائما بالسنن والفروض ومعينا للمسرفين على التوبة والإنابة والعمل لليوم الموعود.
سلام عليك جبل الثقافة السامق الذي تتحطم على جنباته أمواج الغزو الثقافي الذي كاد بدهاقينه أن يطبق على خناق العامة ويلفت أهواء مثقفي الأمة إليه، بحيله وأفانينه ومصطلحاته وأضاليله، تارة باسم التنوير، وأخرى باسم العالم المتحضر أو قل (المتوحش)، أو باسم العالم الحر، وهي أسماء سموها ما أنزل الله بها من سلطان، وما لها من أصل في الحقيقة، ولكنها صيحات وترهات يطلقها مستعمرو الأمس واليوم ويرددها أذنابهم وعملاؤهم، تلك التي أذاقت الناس الشر والوبال وأرهبتهم وسفكت دماءهم ونهبت ثرواتهم وشجعت البغي والتطهير العرقي وحمت الدكتاتوريات والظلمة وسراق الشعوب.
فإذا وجدت معك مكافحا لهذا الغثاء، ومحاربا لهذا الخبال، أفلا تسر وتفرح وتسعد وتهنأ؟ وإذا فقدت سندك ومساعدك وعضدك في مواجهة هذا الزحف، أفلا تحزن وتبتئس وتجزع وترتعد؟
عظيم الناس من يبكي العظاما ويندبهم ولو كانوا عظاما
وأكرم من غمام عند محل فتى يحيي بمدحته الكراما
وما عذر المقصر عن جزاء وما يجزيهم إلا كلاما
هكذا كان سيد نوح، الداعية المتفتح الذي يفهم عصره ويعرف زمانه ويخبر عدوه ويجاهد ضلاله وبهتانه.
سلام عليك مبكي الجموع على حال المسلمين، وموجه الجماهير إلى الطريق المستقيم في زمن نادى فيه الدم المسفوح والأشلاء المتناثرة والهلكى وما يسمعهم أحد، وصاح فيه الشيخ المعروق الواهن فلم يجبه إنسان، وبكى فيه الصبي البائس المقروح، وندبت فيه الأسيرة المنهوكة، فما يلبيها مسلم، نادوا بحق الدم، بحق القربى، بحق الإنسانية، بحق الدين، بحق محمد، بحق رب محمد، نادوا: وا إسلاماه، فما أسمعوا أحدا ولا تحرك قلب!
قد كان فقيدنا د. سيد نوح، على حال المسلمين دوما ينوح، كان يتمزق كمسلم غيور وداعية مخلص، من كمد، ويتفطر قلبه من حسرة وتتقرح كبده من لوعة، لما آل إليه حال الأمة، وكان ينادي مع المخلصين: يا أهل القرار وأصحاب أمانة الحكم، وأصحاب الفخامة والمعالي والجلالة والمهابة والعزة. فما كان يسمع لأحد ركزا، ولكنه لم ييأس، بل كان يقول: حسبنا أن تتيقظ الشعوب، ولا تيأس الأمة من الإصلاح.
ها أنت اليوم قد ودعتنا، والحمل ثقيل، والطريق وعرة، والكفاح مرير، والحروب ضروس، ولكن يكفيك ما قدمت لتضرب المثل لأمة تنهض إن شاء الله وإن روعها الأسى وانتحب المخلصوب فيها لفراقك:
لو أن أوطانا تصور هيكلا دفنوك بين جوانح الأوطان
أو كان يحمل في الجوانح ميت حملوك في الأسماع والأجفان
سلام عليك من قلوب تفطرت لفراقك، لأنها تعرف قدرك، ومن مهج التعاعت لرحيلك، لأنها تآخت معك وسعدت بقربك.
سلام عليك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
سلام عليك ورحمة الله وبركاته.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
د.توفيق الواعي
---------------------
د. نوح.. ذلك الصابر المحتسب
كل من عرفه تأثر به وبأخلاقه.. إن جالسته تشعر بهيبة العالم، ووقار الحكيم، وحنو الوالد، وتواضع ابن البلد.. لم يغير لهجته (لجهة ابن البلد) والتزم الزي الأزهري.. كانت بسمته وضاءة مشرقة.
له تواضع يلزمك الصمت أثناء حديثه، فهو حازم وشديد، ومع ذلك رقيق وطيب، إنسان صادق، سريع الدمعة، كلما مر على لفظ الجلالة أو ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم- أخذ يبكي ويبكي من حوله، من رآه أحبه في الله.
عنده هدف، ورسالة يعيش من أجلها، ألا وهي الدعوة إلى الله، وإصلاح الناس.. يحب العلم حبا شديدا، فقد عاش مع العلم أكثر من أربعين سنة من عمره، تأخر قليلا عن المحاضرة ذات يوم، ربما لدقائق، فأخذ يعتذر، وأخبرنا بأنه قدم من المستشفى، فقلنا له: يا دكتور.. لا ترهق نفسك، فقال: "بالعكس، أنا سعادتي مع العلم، أنا كالسمكة التي لا تعيش بدون الماء، فكذلك لا أستطيع العيش بدون العلم".
حريص على وقته، دقيق في مواعيده، له طريقة في التعليم بديعة ومبتكرة، تخرج الطالب متمكنا من المادة العلمية، غنيا بالمعلومات.. سعادته في خدمة الناس، وتقديم العون ومساعدتهم، فمسجده الذي يصلي به ممتلئ بالفقراء وأصحاب الحاجات.
له قبول في قلوب الناس، كثير العبادة، يقرأ في اليوم الواحد ما يقارب خمسة إلى عشرة أجزاء.
أصيب قبل سنتين تقريبا بسرطان في الكبد، وكان متعبا كثيرا حتى إنه سقط في الغيبوبة أكثر من مرة، وفي يوم إجراء العملية يقول: مت فأحياني الله، وهذا بفضل الله أولا وآخرا، ولصلاح الرجل - نحسبه والله حسيبنا وحسيبه- ثم بدعاء محبيه والناس له.
يصفه الدكتور عصام العريان فيقول: "كان مثالا للعالم الرباني المتواضع في غير ذلة، العفيف في غير غنى، الفقير إلى الله وحده، القوي في الحق، الناصع الحجة عند الجدل، القدوة في التربية والسلوك، الفصيح عند الخطابة، المنتصر عند المحجة، كان صابرا محتسبا راضيا، قانعا بقضاء الله تعالى، لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى، عينه تفيض بالحب والود لكل من يلقاه، خاصة هؤلاء الأحباب الذين فرقت بينه وبينهم الديار، فمن هو هذا الذي جعل الدعوة إلى الله رسالته التي يحيا لها؟!
من هو هذا الصابر المحتسب؟!
من هو هذا العالم الرباني الذي يصدق فيه قول الحسن البصري- رضي الله عنه-: "موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما طرد الليل والنهار".
هيا بنا لنتعرف عليه أكثر ونقتدي به، وندعو له بالرحمة والمغفرة والرضوان.
في قرية أبو غانم التابعة للكراكات مركز بيلا محافظة كفر الشيخ كان مسقط رأسه، ثم انتقل إلى المحلة الكبرى، ودرس بالأزهر الشريف، وتخرج في كلية أصول الدين جامعة الأزهر 1971م، وحصل على الماجستير عام 1973م في موضوع: "زواج النبي بزينب بنت جحش ورد المطاعن التي أثيرت حوله في ضوء المنهج النقدي عند المحدثين" من جامعة الأزهر، وعلى الدكتوراه في موضوع: "الحافظ أبو الحجاج يوسف المزي وجهوده في كتاب تهذيب الكمال".
وشغل فقيد الدعوة عدة وظائف، منها:
- أستاذ حديث وعلومه بجامعة الأزهر.
- أستاذ زائر بجامعة قطر كلية الشريعة من 1981- 1982م.
- أستاذ مساعد بجامعة الإمارات المتحدة كلية الآداب في مادة التفسير وعلومه والحديث وعلومه من 82-91م.
- أستاذ الثقافة الإسلامية وأصول الدين كلية دبي الطبية للبنات 91- 93م.
- أستاذ مشارك بكلية الدراسات العربية والإسلامية دبي.
- أستاذ مساعد بكلية الشريعة جامعة الكويت من 93- 99م.
- أستاذ الحديث وعلومه بكلية الشريعة الآن.
- عضو مجلس كلية الشريعة.
- أشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه، وشارك في مناقشة العديد منها.
- رئيس قسم التفسير والحديث بكلية الشريعة جامعة الكويت
- عضو مجلس جامعة الكويت.
نشاطه
- عضو مجلة الشريعة بكلية الشريعة جامعة الكويت لمدة سنتين.
- رئيس برنامج الحديث وعلومه والدراسات العليا بجامعة الكويت الآن.
- خطيب متطوع بوزارة الأوقاف لمدة ثماني سنوات.
- له نحو 16 بحثا منشورا ومحكما.
- عضو في لجنة الترقيات بالكلية.
- عضو المجلس العلمي الاستشاري لمدة سنة.
- قام بالتحكيم في أكثر من 15 بحثا علميا في مجلات علمية معتمدة في الكويت وبقية دول الخليج وبلدان أخرى من العالم الإسلامي.
- له سلسلة إذاعية بعنوان "جهود علماء المسلمين في خدمة الحديث النبوي".
- كاتب بمجلة "المجتمع" وبمجلة "الوعي الإسلامي".
- شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات والمحاضرات.
- له دروس ثابتة بالكويت في الجمعيات النسائية، مثل: "جمعية لجنة: ساعد أخاك
المسلم"، والجمعية النسائية بالشامية، وجمعية الرعاية الإسلامية.
مؤلفاته
له مؤلفات مطبوعة ما بين مطول ومختصر تصل إلى 20 كتابا، من أهمها:
"توجيهات نبوية، آفات على الطريق، شفا الصدور في تاريخ السنة ومناهج المحدثين، الصحابة وجهودهم في خدمة الحديث، التابعون وجهودهم في خدمة الحديث، منهج الرسول في غرس روح الجهاد في نفوس أصحابه، شخصية المسلم بين الفردية والجماعية، الدعوة الفردية في ضوء المنهج الإسلامي".
عبر من المحنة
وقد امتحنه الله بالمرض، فقد أصيب- رحمه الله- مؤخرا بتضخم الكبد مع ورم سرطاني فيه يزيد على خمسة سنتيمترات، مما استدعى أن يقوم بعملية زرع كبد.. فلنترك له المجال ليحكي لنا عن بعض خواطره عن تلك المحنة.
دعاء السحر
في ليلة من ليالي المرض دعوت ربي أن يفرج عني وأن يرزقني قليلا من النوم، وبينما أنا أدعو أخذتني سنة من النوم، فأتاني أقوام أسمع أصواتهم ولا أراهم بستة متكآت من الإستبرق، وقالوا لي: نم.. وفعلا نمت نحو نصف ساعة، استيقظت بعدها مستريحا كأنما نمت أياما، فقلت: هذا عطاء من ربي ببركة الدعاء في جوف الليل.
أفعال لا تخالف الأقوال
كنت أنبه الناس وأوصيهم برعاية هذه الأخلاق وتلك الآداب، وأنا غارق في أداء واجب الدعوة، مهملا بدني أيما إهمال، بدعوى أن العمر محدود وأن الأمة بحاجة إلى أقل الجهد حتى تتحرر من سيطرة الأعداء ثقافيا وفكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وكنت بذلك كمن يضيء الطريق لغيره ويمشي هو في الظلام ناسيا مبدأ مهما في ديننا الحنيف، وهو أن العبرة بالأفعال التي لا تتعارض مع الأقوال، قال تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (44)} (البقرة).
وإن من ينهج هذا النهج مآله الانقطاع وعدم الاستمرار، وكم نصحني المقربون مني: "تذكر ما تقوله لنا واعلم أن الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يعرفه إلا المرضى، وأنك مسئول عن صحتك مسئولية كبرى أمام الله عز وجل يوم القيامة"، وأنا لا أعير كل ذلك أذنا، ولا أعطيه اهتماما.
ماذا أقول لربي غدا؟
طال بقائي في العناية المركزة لنحو أسبوع، والذي كان يشغل بالي، ماذا أقول لربي غدا، وقد أهملت بدني وصحتي حتى صرت إلى هذا الوضع السيئ المخيف؟ بل كان الذي يشغلني أكثر الخوف من عقاب ربي لي على ذلك بأن يحرمني النطق بالشهادتين عند الموت، فأخسر الدنيا والآخرة.
وكم تضرعت لربي أن يسامحني وأن يعفو عني وأن يختم لي بالإيمان، وعاهدته سبحانه إن عافاني هذه المرة أن تكون عنايتي ببدني وصحتي في أوائل اهتمامي مع مراعاة الجوانب الأخرى في حياتي، فأحقق بذلك التوازن والتكامل الذي دعا إليه الشرع الحنيف.
وعدت بذاكرتي إلى ما كنت أدعو الناس إليه من ضرورة استفراغ الطاقة والجهد في الوصول إلى السنن الكونية، والنفسية، وهي مبذولة من الله لمن يطلبها بجد واجتهاد.
لقد طلبها غير المسلمين، ونفر قليل من المسلمين فأكرمهم الله بها، وقعد كثير من المسلمين عن طلبها فحرمهم الله منها، وأصبحوا عالة على غيرهم فيها، والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وإليه يرجع الأمر كله.
حسرة تعتصر الفؤاد
ونزلنا في أرقى دار للعلاج في مصر (دار الفؤاد) بسبب تعاقدها مع أطباء يابانيين وأوروبيين.. دار للعلاج تبني سمعتها ومنزلتها بين دور العلاج على التعاقد مع أطباء أجانب!
يا لها من حسرة تعتصر الفؤاد أن تصل أمة القيادة البشرية إلى هذا المستوى، والطب عند هؤلاء مصدره المسلمون في الأندلس.
أعقمت مصر؟ أعقمت بلاد العرب؟ أعقمت بلاد الأمة كلها عن إنجاب أطباء عمالقة في جراحة الكبد؟ هل ذلك راجع إلى غباء أبناء هذه الأمة؟ هل ذلك راجع إلى قلة الإمكانات المادية اللازمة لقيام مثل هذه الجراحة؟
تصور أنه لا هذا ولا ذاك،
إنه راجع إلى حالة التشرذم والفرقة التي تعيشها الأمة على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي، الحكومي والشعبي.
فضلا عن ضعف الإيمان وسيطرة النزعة المادية على كثير من أبناء هذه الأمة، بحيث صار كل يقول: نفسي نفسي، وإنه راجع كذلك إلى ضعف القيادة، واشتغالها بدنياها عن رعاية مصالح الأمة وتقدير العلماء النابهين وتشجيعهم.
"لقد جرت سنة الله في خلقه أن ينتقم ممن حاربه شر انتقام، فأين عاد وفرعون وإخوان لوط؟ وأين من كذبوا الرسل وتفننوا في الإساءة إليهم، وفي الدعوة إلى صرف الناس عما يدعون إليه من فضيلة وأخلاق.
تلميذه وجليس دروسه يوسف نور الدين
---------------
الشيخ السيد نوح.. الداعية الرباني
بقلم: وصفي عاشور أبو زيد
في الوقت الذي يهتم فيه الإعلام الرسمي وغير الرسمي بالمخرجين والفنانين، ومن لم يقدموا للأمة شيئا ينهضها من كبوتها المعاصرة، أو يعزز مسيرتها الحضارية.. يجب علينا أن نحيي ذكرى علمائنا الأطهار ودعاتنا الأبرار، الذين جعلوا حياتهم وقفا على الدعوة، وسخروا كل ما يملكون من وقت وجهد ومال وعلم في خدمة دين الله، فحقق الله على أيديهم نتائج مبهرة، وأثمرت جهودهم وجهادهم ثمرات يانعة، وأسست في حياتهم بسعيهم ونداءاتهم مؤسسات كثيرة لا يمحو أثرها في الأمة اختلاف الليل والنهار.
وبحلول يوم الأربعاء 30/7/2008م الموافق 27 رجب 1429ه تحل علينا الذكرى الأولى لعالم وداعية رباني حبيب إلى قلوبنا، عزيز على أنفسنا، خسرت الدعوة بموته علما من أعلامها، وفقدت الأمة بفقده كوكبا من كواكب الهداية في سمائها.. إنه العالم المحدث، والداعية الرباني الشيخ الدكتور السيد محمد نوح، عليه رحمة الله ورضوانه.
المولد والنشأة (1)
ولد السيد محمد السيد نوح في عزبة السباعي الشهيرة ب"عزبة غانم" التابعة لقرية الكوم الطويل في مركز بيلا بمحافظة كفر الشيخ في جمهورية مصر العربية في 23 جمادى الأولى 1365ه الموافق 24 أبريل 1946م لأسرة ريفية فقيرة؛ الأب فيها يعمل بالزراعة، وله عشرة إخوة: خمسة أشقاء، وخمسة غير أشقاء؛ حيث تزوج أبوه محمد السيد نوح من ثلاث نسوة، وكان فقيدنا أكبر إخوته سنا؛ حيث تزوج من أخت الشيخ زين العشري أحد زملائه الذين كان يحبهم ويتأثر بهم، وأقام في المحلة الكبرى بمحافظة الغربية، وأنجب عشرة من الأولاد: تسعة ذكور، وبنتا واحدة.
أتم حفظ القرآن الكريم وهو ابن ثمانية أعوام، ثم انتقل إلى المعهد الأزهري الابتدائي بكفر الشيخ، ثم إلى معهد المحلة الأزهري الثانوي ليحقق في الثانوية الأزهرية ترتيب الأول على محافظته والثالث على الجمهورية، ثم تخرج في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة، وتدرج حتى حصل على العالمية "الدكتوراه" عام 1976م.
وقد حمل سيد نوح هموم أسرته الفقيرة منذ الصغر، فكان يشارك في إعالتها عبر المكافآت (45 جنيها مصريا) التي كان يتقاضاها من الأزهر بحكم تفوقه الدراسي حتى كان هدفه من حصوله على الماجستير والدكتوراه- إلى جانب تحصيل العلم- تحسين حاله وحال أسرته الاقتصادي.
تأثر في المرحلة الثانوية تأثرا كبيرا بالشيخ إبراهيم خميس، ثم بالشيخ عبد الفتاح سلطان، وهيأ له القدر في مرحلة الدكتوراه أن يقرأ كتاب: "العبادة في الإسلام" للشيخ يوسف القرضاوي الذي أثر فيه تأثيرا كبيرا، وأدرك من خلاله سر وجوده ومهمته في الحياة.
كان الشيخ موغلا في التصوف، وكان صادقا في تصوفه، وكان شيخه في هذا الشيخ عبد السلام أبو الفضل إمام مسجد العباسي في المحلة الكبرى بمحافظة الغربية في ذلك الوقت الذي تتلمذ على يديه هو ومحمد محمد الشريف، وحسن الحفناوي، وكان الشيخ سيد- يرحمه الله- متابعا لمجلة الدعوة الإخوانية، ومعجبا بما يكتبه الأستاذ عمر التلمساني، ومتابعا لنشاط الأستاذ محمد العدوي في قرية محلة أبو علي التابعة للمحلة الكبرى، فأراد الشيخ الدكتور يحيى إسماعيل رفيق عمره في الدراسة والدعوة والتخصص، أن ينقل إليه بعضا من فكر الإخوان ومنهجهم، ودله على الشيخ محمد العدوي.
وفي إحدى المناسبات تقابل د. نوح بالشيخ العدوي وعرفه بنفسه، فقال له الشيخ العدوي: "أين أنتم؟! وأين دور علماء الأزهر ؟!" فقال له الشيخ نوح: فيكم الكفاية والبركة إن شاء الله، فقال له العدوي: "انطلقوا وجاهدوا ونحن أحذية في أقدامكم".
وكان هذا من الأسباب البارزة لالتحاقه بالإخوان المسلمين، والتي كان لها دور بارز في تفتيح آفاقه ليطل منها على قضايا الأمة، ويصبح داعية شاملا؛ يحمل هموم أمته بعد أن كان مجرد واعظ وأكاديمي، فتفجرت فيها طاقاته الدعوية، وملكاته الإيمانية والتربوية، وانطلق انطلاقته المباركة حتى قطعت أنفاس كل من كان يعمل معه، ولقي الله وهو على ذلك.
Page 167